info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية الرحلة العشرون - الجزء الأول

 

 

مقدمة

يصعب على المرء أن يصدق بأن رجلا في الرابعة والسبعين من عمره تعتريه نوبات قلبية، ويشكو ارتفاع ضغط الدم والتهاب العظام وانحراف عظمتين في ظهره، ولا يطرقه النوم إلا لماماً ـ أن رجلا كهذا يتعالى على أوجاعه ويستخف بنصائح أطبائه، فيشد رحاله مسافراً من قارة إلى قارة إلى قارة، فيحل في العواصم والمدن والقرى، سحابة ستة أشهر ويومين، غير عابئ بمشاق الترحال وبما قد ينزله القدر به من جرائها .

وقد يستحيل على المرء أن يصدق أيضاً بأن المؤلف في هذه الرحلة لم يقصد إلى الاستجمام أو الترويح عن النفس ـ وما هما، على الجملة، في قاموس حياته ـ بل استهدف غاية مثلى دون تحقيقها تنقّل دائم وجهد موصول وسعي حثيث وتنبه شديد. فحياة المؤلف، في مبـادئه وأهدافه ومساعيه ، صورة للمثالية المطلقة ؛ وكتاباته صروح للمثل العليا : الخير والحق والعدل والحرية والجمال . . . وكان يخشى أن تنقضي دقائق العمر، فلا يجني منها ثماره المرجوة أو يضيف في خلالها لبنات جديدة إلى صروحه الخالدة .
ترى أي مثال من تلك المثل لاح لناظره، في مستهل هذه الرحلة، فملك عليه روحه وحسه، وسلبه لبه وعقله، فمشى إليه على جراحات قلبه وترجيع الامه وأنغام أناته، متعثراً، ناهضاً، متكئاً تارة على عكازه أو أيدي مرافقيه، وجـالسـاً طوراً في عربة نقالة . . . كل ذلك بغية لقاء ذاك المثال
ومعانقته قبل أن توشك شمسه على الغياب؟!

إنه الجمال . . . إنه صورته المثلى . . . إنه الفنّ . . . الفن لا غير!

عرفه في مطلع صباه، وكان قلبه «يخفق بالحب للجمال»، فقام بينهما حب مكين لا ينفصم، بلغ حد الوله والتدله . . . وبالرغم من ضيق ذات يده، فقد كان يسعى  إليه، وإن نأت المسافة، لينعم في ظلاله. وتمكنه الأيام من امتلاك بعض كنوزه، فيحيط بها نفسه، تزين دارته الحالمة، مهبط رسالته الروحية . وكانت مناه أن يستزيد منها مع الأيام، وأن يتيح لها متحفاً خليقاً برفعتها يكون إضافة جليلة إلى التراث الإنساني الخالد .

ثم انطوى نصف قرن على وقوعه في أسر هواه المحيي . ومنذذاك وأمانيه تعقد زهورها الندية بصبر وثبات، وعرائس الفنون الرائعات الحسن تتوارد إليه من أقاصي الأرض، لا يضن من أجلها بمال حازته يمينه، ولا بجهود تستنزف طاقاته ونور عينيه . وبعد انطواء نصف قرن، وبالرغم من كل المثبّطات، بقي وفيا لعهده مع الفن وفي شوق عظيم إلى لقائه ما بقيت لديه سانحة من فرصة العمر، كأنما إرادة الحياة الدائمة الثوران في ذاته تبغي تحقيق المزيد من تصوراته الجبارة، وتأبى الخضوع للضعف والاستسلام لمعاكسات الأقدار الثائرة في وجهه .

ويبدأ رحلته الجديدة في عالم الفن انطلاقاً من مدينة نيويورك، حتى إذا حط رحاله في إحدى الحواضر سارع إلى متاحفها وكل ما يمت فيها إلى الفن بصلة . ولا يني يبحث، من مدينة إلى أخرى، عن الفنانين لمشاهدة أعمالهم، واقتنائها إذا أمكن . وربما استعان بالصحف في بحثه عن لوحات نادرة يرى فيها تفرداً وإبداعاً، فيعلن فيها عن رغبته في ابتياعها .

وهو، كعادته، يبادر إلى تدوين مشاهداته اليومية بتفاصيلها، وتسجيل آرائه في الآثار الفنية وإطلاق أحكامه عليها؛ ويا لها من آراء وأحكام صائبة نافذة تستند إلى رؤية فنية واعية، ثابتة، نابعة من ذوقه الفني الرفيع وطول باعه في شؤون الفن!

وعلى امتداد المـدن الهندية والأوروبية التي زارها تلال من روائع الفنون تلألأت بأنوارها أمامه، فسعى إليها في حملة محمومة لحيازة أكبر قدر منها؛ حملة لم يعرف مثلها التاريخ القديم أو الحديث، بلغت ذروتها في بلاد الهند «العريقة بفنونها الجميلة . »

فمن مدينة إلى مدينة، ومن فندق إلى فندق، ومن طائرة إلى طائرة ، ومـن مركب إلى سيارة أجرة، ومن مصنع إلى متجر إلى صالة مزاد، ومن فنان إلى فنان . . عالم من الجمال راح يكبر ويكبر من حوله مبرداً بشعاعاته اللطيفة لهيب أوجاعه !

إنه ومرافقيه في حركة دائبة أشبه بالغليان. وأخبار حملته صارت حديث تجار الفن يسرون بها بعضهم إلى بعض. منهم من يترصده ويتعقبه إلى فندقه راجياً منه زيارة متجره وشراء معروضاته . ومنهم من يحمل إليه قطع العاج النفيس، فيساومه عليها ويبتاعها. وقد يفد إليه الفنانون مع أقربائهم ومساعديهم، فيعرضون لوحاتهم الزيتية والمائية الرائعة أمامه، فيبتاعها لا يخيب آمالهم فيه؛ فكأنهم في حضرة ملك من ملوك الزمن الغابر، يلقون عنـد قدميه صنع أيديهم الجميل، فيبادلهم بها ذهباً وفضة! أو كأننا أمام شريط لا ينتهي لقصص «ألف ليلة وليلة»!
وتتكدس السلع في غرف الفنادق حيث يحل المؤلف مع رفاق سفره، فيشخص إليه من وراء البحار رسل أوفياء لا يتوانون عن مدّ يد المساعدة له، فيحملونهـا تبـاعـاً إلى مستقرها في أمريكا، إسهاماً صادقاً منهم في قسط، ولو قليل، من هذا العمل الجلل.

لكن أهراء الفن لا تنضب، ومثلها شوق المؤلف إليه . فما تكاد الغرف تفرغ حتى يوافيها بالمزيد . أكداس أكداس . وكنوز كنوز. . . أين منها كنوز الملك العظيم سليمان الحكيم، لملمتها يد تنفذ إلى عمق الأشياء ، تلمس جوهـرها، وتجلو سر خلودها، فتقبض عليها لا تبارحها، وتحملها بحب كبير إلى معبد الجمال الخالد الذي استحقته عن جدارة!

ولا تقتصر الرحلة على الفن وحده ؛ فهي، بشكل أعم وأشمل، رحلة في حضارة البلدان وتاريخها، وفي أحوال شعوبها وعقائدهم وأخلاقياتهم . وعـهـدنـا بالمؤلف أنه متعـدد الاهتمامات، تشوقه الاستزادة من المعرفة والإلمام بكل شيء من حوله . فمن المحال أن يمر ببلد من غير أن يشير إلى مبلغه من التقدم أو التأخر في ركب الحضارة . وإذا زار المدن والقرى، أو عرج عليها، وصفها وأبدى انطباعه عنها .

ولا تخـرج المعابد والمساجد والقلاع وأضرحة المشاهير ومتاحفهم التذكارية عن دائرة اهتماماته؛ فهو يرى من خلالها مسيرة التاريخ وتطور الحضارة، ويقرأ أخبار الرجالات العظام الذين كانت لهم الأيادي البيضاء في حياة أممهم وتقدمها. ولا يستنكف، أحياناً، عن المجاهرة برأيه، أو الإلماع إليه، إذا ما بدا له أن يداً مزورة قد عبثت بحقائق التاريخ، على نحو ما صُنع بمأساة مايرلنك في تاريخ النمسا؛ فقد عمد، في شأنها، إلى ان يشرع قلمه، ويترك له العنان كي يعيد الحق إلى نصابه.

التـاريخ، في رأي المؤلف، يعنو للجبابرة، لمن حملوا مشاعل النور غير وجلين في وجـه جـحـافـل الظلام . ولقد رآه هناك، منحنياً عند قدمي مهاتما الهند المجاهد : في منزله، في متحفه، أمام صوره، حول نصبه، وعنـد الثرى الذي سقط فوقه .. وها هو المؤلف قد جاء أيضاً، خاشعاً، ليعانق روح «نبي القرن العشرين» الذي محضه حبه المطلق دون أي منازع .

ويخوض المؤلف في أحوال البشر وأخلاقهم، فإذاه، حينذاك، أشد ما يكون إيلاماً. فهو ينظر إلى المجتمعات من خلال نظارته التي تميز بين الخير والشر، ولا تتأثر بالعوامل البشرية السخيفة. فنراه يطرب لأدنى بارقة خير، ويألم لتعاظم الشر وفقدان العدالة، ولا يتوانى عن إطلاق النداء تلو النداء من على صفحات كتابه لمن بيدهم الأمور كي يعمدوا إلى لجم فوضى أو رفع ظلامة أو منع عادة اجتماعية تسيء إلى شمعة البلد شعباً وحكومة .

ولشـد ما أثار حفيظته في هذه الرحلة تهافت القيم الأخلاقية ومشاهد البؤس الصارخ وتعاظم الجشع في النفوس، فأخذته لذلك سورة الغضب على الإنسانية التي يراها قد فرغت من معانيها، فصارت «مدنسة» تستحق أن توضع «في سلة المهملات . »

واللافت أن المؤلف، على شدة انشغاله بما تقتضيه مقاصد الرحلة، بقي مثابراً على القيام بنشاطات يومية تعدّ ثوابت في حياته الجارية، لا يعمد إطـلاقـاً إلى الكف عنها أو إهمالها حتى في أقسى ظروف حالته الصحية المؤسية. فهـو يطالـع أكـداس الـجـرائـد والمجـلات والكتب التي ترده باستمرار، وقد يدرج في كتاب رحلته ما يختار من قراءاته لجذب انتباه القراء إليه . كما يتابع سير طبع مؤلفاته وما يصدر عنه في الصحف العربية . على أنه لا يخل أبدا في تدوين وقائع رحلته يوماً إثر يوم، مع ما فيها من حساب نفقاته، وقوائم تفصيلية بأثمان مشترياته الفنية، فضلا عن مقارنته الأسعار بين بلد وآخر، وإطلاقه الأحكام الفنية، الأمر الذي يعد سابقة في تاريخ الفن تصلح لأن تكون مرجعية للهواة ومدرسة للتذوق الفني الرفيع .

لقد أتيح لي أن أكون إلى جانب المؤلف في الفترة التي سبقت قيامه برحلته، وسعدت بالعمل معه في أثنائها. ولقد حظيت برؤيته وهو يتشامخ على أوجاعه دائباً على مواصلة جهوده بصورة لا تتأتى إلا للجبابرة .

ثم توادعنا، وارتحلنا، كل في طريقه ... وكان كالفارس المظفّر، المثقل بالجراح، على جبينه قدر محتوم، وعلى ثغره بسمة الأمل الكبير، وفي البعيد أنوار تلوح له . . . لن يعود إلا بصيد وفير من كنوز الجمال .

نعم . .. يأبى الفارس أن يترجّل!

ما زال يخيل إلي، حتى اليوم، أنه هناك، يتابع رحلته، عكازه في يمينه، ودونه مواكب تلو مواكب من عرائس الفنون يحاول أن يروي غليله إليها! كأني به يتقدم بخشوع ، ويخطو خطواته العشرين إلى حيث فاضت روح المهاتما كي يعانقها! كأني به جالس أمام دفتر الزائرين في متحفه، يدون فيه كلمته التاريخية :

«إن اسمك، أيها المهاتما العظيم، قد خلده عزوفك عن مغريات الحياة الدنيا الزائلة، فإذا بملايين الشفاه تردد اسمك بقدسية فائقة . »