info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "أناشيد البحيرات"

أناشيد البحيرات

 

فتنة الربيع الضاحك

أهلاً بالربيعِ وسهلاً بأزهارِهْ!

ما أُحيلى جمالَ خضرةِ أشجارِهْ!

وما أعذبَ تغريدَ أطيارِهْ!

وما ألذَّ شهيَّ أثمارِهْ!

ويا لصفاءِ ماءِ أنهارِهْ!

ويا لروعةِ خرير غُدرانِهْ!

فعلى الأفنان غرَّد كنارُه

والرمانُ تبرعَمَ نُوَّارُه

فالصيفُ تلْذعُنا جمراته

وتلفحُ وجوهَنا نيرانه

والرّبيعُ وقد أشرقَتْ أنوارُه

عَزفَتْ تطربنا أوتارُه

فشنَّفَت الفضاءَ أنغامُه

فاصبحتُ من عُشّاقِه وسُمَّاره

وسُحرتُ بحقوله وغيطانِه

وبُهرتُ لفتنةِ أُقحوانِه

وتَنسمتُ عطرَ فُلّهِ وبنفسجه

ونعمتُ بأرج ياسمينهِ وحبقه

وتَزينتُ بورده وقُرنفله

وذُهلتُ لنُصوع زنابقِه

وخشعتُ لروعةِ أشعارِه.

                       

كتبتُها في السيارة الذاهبة بنا إلى مطار كندي

                                        الساعة 6 وربع من مساء

                                                23/5/1978

 

يا لعيني

 

بالأمس عيني أُصيبتْ برشاشِ الاسنان(1)

فاحتكَّ بها وأُصيب بضررٍ فيها مقرُّ الإنسان(2)

 هي النار تلظتْ فيها، وكأنها طُعنت بالسِنانْ

لهيبٌ أضرم فيها أوراه، فاستذْتُ منه بالشيطانْ

ألم مُدمَّى استعر بداخلها فاصطبغت بلون الرمّانْ

هرولتُ للماء أبردها به، مُطلقًا لأملي العنانْ

وشعرتُ، كأن رملاً راسبًا فيها ومستقرًا باطمئنانْ

وأسرع نقولا وايليا ليلاً وأحضر لي درمان(3)

غسلتها به فازداد لهيبُها، فيا لشقاء الإنسان!

ترى، هل ما أُصبت به جزاءٌ لما ارتكبته بسالف الزمان؟

هي عدالة الله تجري علينا في كلِّ آنْ

فمن يعملْ خيرًا مثقالَ ذرة، فل يصاب بأيِّ هوانْ

ويرتع ببحبوحة رغد، ويحيا بسكينة وأمانْ

وبعكسِ هذا يصابُ بالبلايا، فيُذعرُ ويردِّدُ أمانًا أمانْ!!

                                                        نيويورك

                                                        الساعة 9 وربع من صباح

                                                        24/7/1978

 

مشاهداتٌ مُذهلة

في الشارع الرابع عشر بنيُويورك

 

في الساعة الرابعة والنصف استقليت التاكسي، وذهبت إلى الشارع الرابع عشر في نيويورك. وهذا الشارع المستطيل لا يستطيعُ النظر مشاهدة نهايته؛ وتقومُ على جانبيه مئات المتاجر المتنوعة السلع. وسرت فيه على أقدامي، واندمجت بآلاف السائرين من نساء، ورجالٍ، وشبانٍ، وشابات، وأطفال، ورُضعٍ محمولين على أكتافِ أُمهاتهم؛ والبعض من هؤلاء الأطفال يجلسون في عرباتهم، وتدفعُ هذه العربات أيدي والديهم أو والداتهم. ورحت أتفرّس في الوجوه. وجوهٌ عديدة مختلفة ومتباينة، وجوهُ أميركيين، ويابانيين, وبرتوريكيين، وبرازيليين، ومكسيكيين، وباريسيين، وإنجليز، وماليزيين، ولبنانيين، وسوريين، ومصريين، وكوريين، ومالطيين، وفلسطينيين، وقد اختلط حابلهم بنابلهم.

فها هي فاتنة دعجاءُ وقد ارتدت أفخر ما ترتديه الأنثى، وعبق من جسدها عبيرٌ ضمخ الفضاء، وهي تسير بغنج وكأنها رشأ غرير.

وتلك الزنجية عقصت شعرها خُصلاً عديدة، وهي تسير ناظرة للجنس الأبيض بعينٍ شزراء، وعبستُها تُظهر عدم رضاها على هذا الجنس البغيض لديها.

وذلك الشيخ المُهدَّم يسير الهوينا، وقد طوت الأعوامُ ظهره، وخففت من دفع خطوه، فهو يسير بتعبٍ ملحوظ.

ومرَّ أعمى، ودليلُه عصا بيضاءُ طويلة برأسٍ أخضر، وهو يضرب بها الأرض يمنةً ويسرةً.

وتلك عجوزٌ شمطاء ولكنها مُتصابية تسير وعينها ترنو إلى شابين مُتلاصقين، وكأنها تذكر أيام صباها الراحل بعدما حط على كلكلها فصلُ الشتاء القاحل.

واصطدم نظري بعبدة، أقسم بأنني ظننتها للوهلة الأولى برميلاً ضخمًا يتدحرج على الرصيف، وإذاها زنجية تسيرُ مثلما يسير الدب السمين.

ووقفت أمام متجرٍ مُختص ببيع أدوات الموسيقى، وكانت أنغامُ البيك أب تملأ رحاب المتجر، وتتسرب الأنغام للخارج؛ وإذا بي أجد شابًا وقد استبدَّ! به الطرب، وإذاه يتابع بحركات رجليه وكفيه الأنغامَ الموسيقية، ثم راح يضرب كفًّا بكفّ متابعًا تلك النغمات. فدُهشتُ لما رأيت. ثم تابعتُ سيري، وإذا ببائع صورٍ ملونة بطريقة تنفرُ العيون من مشاهدتها: فألوانها وقحة للغاية، ورسومها سقيمة، وكان صاحبها يُمسك بقبضة يده رزمة من النقود الورقية، وهو يحصيها ناظرًا إليها بنهم. فقلت لقد حذرني الكثيرون قائلين لي: إياك أن تخرج نقودًا في الشارع العام؛ فإذا شوهدت نقودٌ مع أي شخص في شوارع نيويورك، فإن خطرًا جسيمًا قد يتهدده. وها إني أُشاهد رزمة من أوراق النقد مع هذا البائع المتجوّل. وآلاف من المارة يشاهدونه وهم غير مُهتمين اطلاقًا.

وللمرة الثانية شاهدت فتاةً بميعة الصبا وربيع العمر وهي تتابع أنغامًا صادرةً من أحد المتاجر وتهزّ كتفيها، وتدقُّ قدميها بالأرض، وكأن بها جنةً، فاستغربتُ هذا المشهد للغاية.

وكنتُ أرى رجال الشرطة مُنبثين يراقبون المارة حتى إذا حدث أمر يسترعي تدخُّلهم، تدخلو فورًا.

لقد شاهدتُ مشاهد عجيبة غريبة؛ فآلاف الآلاف من المارة راقبتُ سيرهم وتمعَّنت في وجوههم. وكان عددٌ كبير منهم يدخلون إلى المتاجر، وآخرون سواهم يغادرون تلك المتاجر، وكل منهم مُنهمكٌ بما يرغب شراءه مُقلّبًا السلع، مُنقبًا في كل واحدة منها يريد ابتياعها. وأعين أصحاب المتاجر ترمق الزبائن، وهمُّهم تصريف هذه السلع المتراكمة.

وعندما مللت هذه المشاهد، واستبدّ بي التعب، وكان الحر خانقًا، والعرق يغمرني غمرًا، استقليت سيارة أُجرة أعادتني إلى شقة الأخ غازي براكس، فوصلت إليها وتلك المشاهد راسخةٌ في عقلي، ولن أنساهَا، مشاهد الجماهير المُندفعة إلى المتاجر والمُتدفقة في الشارع، من نساء ورجالٍ وشبان وشابات، والسيارات التي تملأ شوارع نيويورك مُقلَّةً أغنياء وفقراء، صادقين وكاذبين، قتلةً ومجرمين – جميع هؤلاء الخلائق يسيرون في متاهات هذا العالم، والموت يترصدهم، فهو سيقنصهم الواحد يتلوه الآخر؛ فجميعُنا مصيرُنا إلى تلك الحفرة الخالية الباردة المنسية.

فرحماك ربّي رحماك...

لقد ضاقت نفسي، وملّت روحي مشاهد عافتها، فباتت تصبو إلى عالم آخر تظلِّله السعادةُ، وتسوده السكينةُ وتغمره بردة الطمأنينة وتشملُه عناية ربِّ الخلائق...

 

                                                                نيويورك

                                                الساعة 6 ونصف من مساء 12/8/1978