info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "أفراح وأتراح"

أفراح وأتراح

 

 

صرخة من أعماق الرُّوح

 

يا أشد فتنةً من كوكب الصباح المُنير!

ويا أروعَ من حلم فينوس ربَّة الجمال ومليكة الدلال!

ويا أمنية روحي البهيَّة ورجاء نفسي الخفيَّة!

أنت هديّةُ الله الكثير المراحم...

رأف بي فأرسلكِ كترياقٍ لروحي الشقية.

تبتسمين فتنيرين الأمل في حنايا روحي،

وتغيبُ البسمةُ عن فمكِ الشهي،

فإذا بالنبال الحادة تُمزقُ قلبي وتقطع أحشائي.

أُنظري إلى وجهي العظيم الشوق لمشاهدة وجهكِ السماويّ الأنوار،

وسلِّطي، يا بدري المنير، أشعتكِ الباهرة على كياني

فتغمرني بهجةٌ لا يستطيع قلمي لها وصفًا.

ويا أثمن كنوزي قاطبةً،

عِديني أن تكوني لي بمفردي،

وإذْ ذاك تغمرني الكبرياءُ الهائلة،

وأشمخُ على كافّة البرايا.

وسرعان ما أجثو أمام فتنتكِ الفردوسية الخالدة،

وأغيبُ من النشوة العظمى،

وأحتويك بين ذراعيّ،

وأطبعُ على فمكِ الفردوسيّ قبلةً

تنتهي الأكوان دون أن تنتهي.

آه! ما أشدَّ فتنتكِ الطاغية على قلبي الضعيف أمام محراب جمالكِ

الذي هو نعمةُ الخالق لي أنا المسكين!

                                                                        بيروت، 10 أيار 1945

 

 

رُوحي تنّاديكِ

 

كلّما أحاول أن أبتعد عنكِ،

أشعرُ أنني أشدُّ اقترابًا إليكِ.

فأنتِ لي كالروح للجسد وكالنفس للجسم المادي.

فأنَى لي؟.. أنّى لي أن أدعكِ تغادرينني،

يا أمنية نفسي الوحيدة.

إنَّ الدقيقة التي يُتاحُ لك فيها مغادرتي

سيكون فيها القضاء عليَّ بمغادرة روحي لجسدي المهدَّم المحطَّم لبعدك.

لقد رشفتُ من حبّك حتى الثمالة،

إذْ منحتني نعمةَ الولوج إلى موطن قدس أقداسك.

لقد غمرتِ روحي بالسعادة اللانهائية.

عندما اندمدتُ بكِ واندمجت بِي،

فإذا أنا أسيرُكِ الأبديّ،

أتنسّم رائحتكِ فأشعر بزنابق جنّة الخلد

يسري فوحُها في أعطاف روحي المتيَّمة بحبِّك،

وأُشاهدُ بسمتكِ فتتفتقُ الورودُ باخضلالها

من خلال بسمتكِ الحبيبة.

ثم... ثم تمنحينني حبكِ وتُغدقينه عليَّ بدون حساب،

فأروح خائضًا في محيطكِ اللجب اللانهائي،

وأمكث وتمكثين إلى ما لا انتهاء.

 

                                        بيروت، 25 أيار 1945

 

 

نواح نواح

-1-

نُواح نواحْ، في الليل والصباح

فمن هو السعيد بين البرايا؟

ومن هو ذو الثغر الوضاحْ؟

نقضي ليالينا بالهم والأتراحْ

لله أين أمانينا وأين هي الأفراحْ؟

نُواحْ نُواحْ

-2-

نُواحٌ شديد، وصخبٌ مخيف

وروحٌ تضج ونفس خفيف

وقلبٌ خافقٌ ونحيبٌ عنيف

ومقلةٌ دامعة وبصرٌ كفيف

وضياءٌ متجهّم ليس فيه رفيفْ

إليَّ إليَّ يا معشر النواحْ

نواحْ نواحْ

-3-

سماءٌ مكفهرةً وليلةٌ مُدلهمَّة

أعصابٌ مُرهقة وفتورٌ في الهمَّة

بنُو الأرض فقدوا المروءةَ فليس هناك من ذمَّة

ينحون عليك يا صاح بالمهانة ويرمونك بكل مذمَّة

جيفٌ والله هُمْ فالرُّمة تتلوها رُمَّة

صراخٌ يشقُّ الفضاءَ الوسيع فيشيع فيه النّواحْ

نُواحْ نُواحْ

-4-

نواحٌ رهيب يُزلزلُ البطاحْ

يتلوه عويلٌ مُدمّى يُمزِّق الأرواحْ

أزهارُ عمري تبدَّدتْ فاجتاحها الشرُّ اجتياحْ

سماءُ حياتي تراقصتْ فيها أرعبُ الأشباحْ

سيَّان عندي الليل إذا ولَّى والفجر إذا لاحْ

رهين الشجن، خدين المحن

عدوّ الزمن، اليفُ النواحْ

نُواحْ نُواحْ

                                                                تاريخ 1- 6-  1945

 

 

موتُ الجيز

سكنَتْ حركتُه،

وأطبق جناحيه

بعد أن ضمَّ رجليه ويديه،

واستحالت حركته الفتَّانة إلى صمتٍ أخرس عميقٍ كل العمق،

وجثم جثمته الأبدية بدعة وصمتٍ محزنين،

واستحال اخضرارُ جناحيه إلى اغبرار الموت الذي لا يرحم.

لقد مات الجيزُ اللطيف التكوين بعد نزاعٍ مؤلم.

لقد انطلقتْ روحُه بعد ساعات احتضارٍ طويلة.

وكان ألمه المُجسم يبدو بالحركات البطيئة التي يُبديها في يديه النحيلتين،

وبزعنفتيه الدقيقتين المهتزتين بين الفينة والفينة.

وفي خلال احتضاره حاول أن ينهض أكثر من مرة،

ولكنه كان يهوي دون بلوغ أمنيته المُستحيلة.

رششتُه بالماء فما أجداه نفعًا.

ونفختُ عليه برقة علِّي أبعث فيه الحياة،

فكنتُ كالنافخ في الرماد.

أمسكتُه بلطف ورقة وجعلته ضمن وردةٍ قانية اللون،

علَّ أريجها يحيه، ولكن عبثًا كانت محاولتي المُضحكة.

وما بلغت الساعة الواحدة بعد الظهر،

حتى انتهى أمره وتبدَّد عُمره،

فحملته بخشوعٍ وورع، ووضعتُه ضمن علبة معدنية،

وأغلقتها عليه فحنَّت عليه وحنَّت إليه.

إنها مثواهُ الأخير ورمسُهُ البارد المُظلم.

وأنا، أنا البشريُّ المسكين،

أتمنى على الله العلي العظيم

أن يُرسِلَ لي في يومي الأخير

يدًا رفيقةً رقيقة

تُغمضُ عينيَّ المُتعبتين من أتراح دنيا الفساد والشقاء،

وتضعُني في نعشي، ثم تذرفُ عليَّ دمعةً صادقةً،

لتعود هذه اليد فتُواريني في الجدث البارد المنسي.

وهناك أمكُثُ مُضطجعًا ضجعتي المؤسية الأخيرة

حتى أبد الآبدين.

                                                        بيروت، تاريخ 4/65/1945

                                                        منزل محاسن وأميرة