info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى  "قيثارة الآلهة" الجزء الثاني

 قيثارة الآلهة الجزء الثاني

 

 

إزدراء

يا عالم الأكاذيب... ويا موطن عُشاق اللؤم الزور

أيُها الكونُ المملوء بأعداء اللباب أحباب القشور

أيُها المحيط الزاخر بأنفاس سُكان القبور

أيها الخضمُّ المُتلاطمُ بأمواجِ الفسقُ الفجور

أيُها الطاغية ذو السيف الرهيب المُحطِّم للسرور

أنا هُو من يزدريك حتى يوم النشور!...

 

من كتاب بُروق ورُعود للمؤلف

الدكتور داهش مؤلف الكتاب

 

 

 

التائهه في بيداء الحياة

وفي بيداء الحياة القاحلة،

وأنا مُستغرقٌ في السُبات،

وحيدًا دون أنيس يُذهب عني وحشتي القاتلة...

تمثلتُكِ أمام عينيَّ المقرحتين بالبكاء... أيْ ديانا!...

كما سبق ورأيتكِ عندما كنتُ أسعد بلقياك!...

تخيلتُكِ تنظرين إليَّ من عليائكِ

التي أصبحتِ بها تنعَمين،

مزيلةً عنّي آلامي

بابتسامةٍ عذبة انفرجت عنها شفتاكِ المقدَّستان!

وقد احتاط الملائكةُ الأطهار بكِ!...

فكنتِ أَبهاهُمْ منظرًا، وأودعهُم مخبرًا!...

وسُرعانَ ما بدَّدتِ الحقيقة تخيلاتي هذه!

وأيضًا!

إخالُ نفسي سامعًا صوتكِ الذي طالما أسمعتِنيه!...

فتسكر روحي وأهيمُ في تصوراتٍ سماوية...

لا قوة لمخلوقٍ على إيقاظي منها

سوى زوال شبحكِ من أمام مخيلتي!...

أَوَّاه! يا معبودةَ الروح!...

لقد تذكَّرتُ أيضًا...

عندما أَقسمتِ عليَّ أن لا أغادر (القاهرة)!

فأنسيتني نفسي!

وما عُدْتُ لأعي ما أقومُ بهِ...

فاحتويتُ جثمانك بذراعَيّ!

ولم أرفعهُما عنكِ...

لساعاتٍ طويلة... لا أدري تعدادَها!

أوَتدري الأرواحُ القُدسية آلاف السنين...

التي تمرُّ بها وهي في حضرة الإله الموجد؟

لا وربّي!...

إنها لا تدريها...

وأنا في تلك اللحظة كذلك!!...

 

 

هيرا ولاندر

قبل مضيّ قرونٍ آبدة،

وُجدَ معبدٌ للإلهة (أفروديت) إلهةِ الحب والجمال،

أقيم خصيصًا لها!...

وكان فخم البنيان رائعهُ!

قام وراء الآكام

وفي بطون الأودية المُوغلةِ في البعد!

وكان يحوي بين جدرانهِ فتيات صغيرات السن!

نذرن أنفسهنَّ لأفروديت!

فصرنَ يعرفنَ باسم (الأخوات)!

وكان مِن بينهنَّ راهبة فتيَّة، صغيرة السن!

تُدعى (هيرا)!

كانت (هيرا) أجملَهنّ وجهًا،

وأحسنهنَّ قوامًا، وأفتنهنَّ عيونًا،

وأرشقهنَّ حركةً، وأعذبهنَّ نَغْمةً،

وأعزفهنَّ على الكمان!

كانت كالبدر المُشرق

في ليلةِ ربيع مُقمرة، هادئة، عليلة النسيم!

كان جمالها مُعجزةً إلهيَّة

لا يُستطاع لهُ وصفٌ ولا تعريف!

كانت إلهةً مجسَّمة نزلت الأرض مُتنكرة...

مُتخذةً جسم فتاة لغاية مجهولة ترمي إليها!...

إنَّ جمالها يعجزُ عن وصفه فنَّانو الإغريق

المكينون في تعريف الجمال

لكثرة التماثيل التي صنعوها...

فخلِّدت أسماؤُهم بَعْدَ أن طواهم العدم!...

***

ذاع اسم (هيرا) وشاع في طول البلاد وعَرضها!

ولم تبقَ أذنٌ بشرية

دون أن يطرقها اسمُ هذه الغادة...

فتغنى بها الشعراء الخياليون!

وهرعت من كل قطرٍ وحدب جماعاتٌ من الفنانين

ليصنعوا لها التماثيل التي تُلقي بالروعة للناظر إليها...

فأخفقوا في ذلك!

ولم ينجحوا بتمثيل ذلك الجمال الحي للجسم

بقطعةٍ رخامية، ميتة، لا روح فيها ولا حراك!...

حتى... ومخيّلات الشعراء!

رغمًا عن سموِّ تعابيرهم في الألفاظ والمعاني،

فإنهم شعروا بقصورهم في ما قالوه من الأبيات

بوصف حسنها السماويّ العجيب

المُحتلّ جسمَها اللدْن اللطيف!

 

***

وآلاف مِن العشاق العظماء المُستميتين والفاتحين للبلاد جعلوا هذا المعبد القائمَ في صميم الصحراء

محطّ رحالهم!...

وكم منهم من سقط صريع مصارعةٍ أو مبارزة...

من أجل هذه الغادة الساحرة!...

ممَّا دعا الكهنة إلى الاستنجاد

بقوى الحكومة التي ينتمون إليها!

... كانوا يقتتلون بجنون وقسوة لا نظير لهما...

بعد رؤية ما تحويه (هيرا)

من الحسن اللابشري.

إنها رسولةٌ سماوية،

بل إلهةٌ إغريقية،

أتت متنكرة إلى أرضنا هذه... لتُريَ البشر

نوعَ الجمال السماوي، ومقدار جبروته وعظمته!

وكم من النفوس ذهبت ضحيَّةً

على مذبحِ حبُّها المُحرق المُذيب...

كلُّ ذلك...

في سبيل نظرةٍ واحدة

من عينيها السماويتين الهادئتين!...

***

... وسقطت هيرا فجأةً

في حب شاب يدعى (لاندر)

يكاد يُضاهيها جمالاً!...

فقد جاء هذا الشابّ

من أقاصي الأرض وأطرافها البعيدة...

بعدما سمع بجمالها!...

مُجتازًا تلك الفيافي والقفار،

وقاطعًا تلك المهاوي والأخطار،

حتى وصل إلى المكان الذي تقيمُ فيه...

وإذا بها تقعُ في حبائل حُبّه!

ويسبحُ بدورهِ في فيضٍ من نُورها السماويّ!...

وإذ بكيوييدَ يصوِّبُ سهمهُ الذي لا يخيب...

على قلبيهما فيربطهما برباطٍ متين ليس لعُراهُ انفصام،

على مدارِ الأيام والأعوام!....

كان (لاندر) في كل ليلةٍ تجنُ بها الظلمة...

يقتحمُ مياه النهر

الذي يفصل ما بين المكان الذي اتخذهُ مقرًا

والمعبد الذي تٌقيمُ بين جدرانه (هيرا)!...

ويجتمعُ بها... طوال الليل، حتى ينبلج الفجر!...

فيرجعُ سابحًا إلى مكان سُكناه،

مُنتظرًا بفروغ صبر... مجيء الليل، ليُعيد الكرة،

ويجتمع بمن وهبها قلبه، ووهبته فؤادَها!...

***

ولكن القدر الساخر من بني البشر

كان ينظر لهذا الحب المكين،

ويبسمُ ابتسامتهُ القاسية المُرعبة!...

فقد ستر في جوفِهِ أمرًا سيُماط عنهُ اللثام قريبًا!

فتهتزُّ الأفئدة منهُ رعبًا وهولاً...

إنهُ أقسم أن يَدَعَ التفرقة تتمّ عمَّا قليل!

ولا وصال... بعد ذلك مُطلقًا!...

ففي ليلةٍ ذات مساءٍ مُظلمٍ قاتم،

خرجت (هيرا) من معبدها السجينة فيه!

ميمّمة – كالعادة – شطر الشاطئ

الذي اعتاد حبيبها أن يأتي منه!

وجلست في نفس البقعة التي اعتادتْ أن تجلسَ فيها:

بين النباتات والحشائش الطويلة،

مُنتظرةً بفروغ صبرٍ مجيئَهُ!...

ومضتِ الساعات تباعًا، دون أن يأتي.

وما اعتادت منهُ ذلك!...

فيا للمصيبة الدَّاهمة!...

إذ ما معنى ذلك، يا تُرى؟!...

في تلك الليلة الليلاء المُرعبة...

والسكينةِ القاتلة المخيّمة

التي لم يكن يبدّدها،

سوى صوتِ زمجرةِ (النهر) الصاخبة،

وشدةِ العواصف ذات الرعود القواصِف...

جلست (هيرا...) معتمدةً ذقنها بيدها...

غائصةً في لجةٍ من الأفكار القاتلة، العميقة...

أفكار حصول مكروه لمن تعبدُ وتُحب!!...

كانتِ الأمواجُ تعلو كالجبال الشامخة!

والرياح شديدة عنيفة، والبَردُ قارسٌ غيرُ مُحتمل!...

***

رَبَّاه!

ليتهُ لا يأتي في هذه الليلة العاصفة!...

هذا ما كان يجول في خاطِر هيرا!

وتردّدهُ شفتاها!...

ولكن!...

ولكن ما كلُّ رغبةٍ تُستجاب!...

فقد شاء لهما القدر الساخِر... غيرَ ذلك!

وإرادةُ القدّر

فوق إرادةَ البشر!...

مرَّت الساعات تباعاً،

حتى تصرَّمتْ آخرُ ساعةٍ من ساعات الليل.

وَدَوْرُ الساعة الأولى

من ساعاتِ النهار المضيء الكاشف

قد حان!

وإذا بالأمواج...

تحملُ جثَّة حبيبها

الذي لم يستطعْ أَن يتغلَّبَ،

على قوَّة الأمواجِ المرتفعة الغَضوبة

في ليلةٍ هوجاء الرياح... كتلكَ الليلة!

لَم تصرخْ، ولم تستغثْ!...

إذْ إنَّ حُزْنَها... أكبرُ من ذلك!...

والدمع قد نَضَبَ مَعينُهُ... فلا يفيض!

وسُمِّر نظرُها بالجثة المُلقاةِ أمامَ قدميها!

وحلَّت بها جنةٌ.. فجعلت تقهقهُ بصوتٍ مرتفع...

وهي لا تدري ما تفعل!

***

مسكينةٌ (هيرا) وتعسة!
فقد اعتزلت العالم بعد تلك الساعة!

وانزوتْ عن رفيقاتها اللواتي يتعبَّدنَ للآلهة هناك،

وما عادت الابتسامة لتزورها!...

ولم تعُدَ رفيقاتها بعد تلكَ الساعة،

ليسمَعْنَ منها شدوا أو لحنا كالسَّابق!

ذّوَتْ تلك الميول والعواطف

التي كانت تزخُر في أعماق أعماقِها...

قبل ذلك اليومِ المشؤوم!!...

***

وتدورُ بنا الأيَّام دورتَها،

وإذا بجمالِ (هيرا) ذاوٍ ذابل!

وإذا بها قد هرمتْ، وتحطمت!...

فأصبحت العين تنفرُ من رؤيتها،

بعد ذلك الجمال الذي كان مجسَّمًا

في شخصِها الملائكي الذي كانت تُضربُ به الأمثال!

ولم يَمضِ على كل ذلك عامٌ واحد!

***

في مثل نفس ذلك اليوم

الذي سجله الدهر بين طياته،

استيقظت (الأخواتُ الرَّاهبات)

على صوت حشرجةٍ ضعيفة،

وغمغمةٍ خافتةِ النبرات...

فهمنَ منها: إسم (لاندر) فقط!..

ولَمْ تفتحْ شفتيها بعد ذلك!

وستبقيان مغلقتين... إلى يوم الحساب!...

***

لقد رقدت رقدتها الهادئة الأخيرة!

ورسمُ حبيبها (لاندر) لم يفارق مخيلتها!...

واسمُهُ

لم يفارق شفتيها!

إذ كان آخر ما نطقت به!...

مسكينةٌ أنتِ يا (هيرا) وحزينة!...

ففي ذمَّةِ الله وملائكتهِ الأطهار

ما فعلهُ الحزنُ المريرُ بكِ،

وما قامت به الأقدار،

تنفيذًا لغايةٍ لا تُدركينها،

ولا نحنُ نعرفها!...

أُرقدي رقدتك الأخيرة، يا أختاه!

وحلقي في أجواز الفضاء،

عسى روحك تلتقي بمن تحبين وتهوين.

وفي ذمة الأبد

رقدتُك هذه

يا أيتها (الأختُ) الطاهرة!

ويا ذات البهاء والنقاء!....

الوَدَاع يا هيرا!...