info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "قصة تقمص"

قصة تقمص

زينة حداد

 

موت جوهان

المعركة محتدمة ، و الجيشان العدوان ملتحمان في قتال ضار. و تئزّ كرات الرصاص بعضها على مقربة من بعض. حقا"، انّ الأسلحة الحديثة ميزة هذا العصر.

الموت ينشر ظلاله على أرض المعركة الحامية الوطيس، و النار مندلعة في أرجائها كافة. و يحاول جوهان، و القنبلة في قبضته ، ان يصيب هدفه. الاّ ان رصاصة قاتلة تعالجه، فيسقط لا حراك به. و مع ذلك، فلا يزاليه الاحساس بأنه حيّ حقا" . فيحاول ان يحرك ذراعيه و رجليه ، فلا تطاوعة في تصلبها . و يحاول الصراخ , فلا يسمعه رفاقه! الجرح غير ذي ألم ،. فهو لا يحسّ به .

جوهان ميت ... لكنّه ما يزال يجهل ذلك !

لمعركة لا تنفكّ دائرة , وهو لا يني يسمع دوي الأنفجارات ... ولكنه لا يتسنّى له اطلاقا" أن ينهض ويلتحق بكتيبته !

يمرّ ممرضو الصليب الأحمر على مقربة منه وهم يلملمون الجرحى , فيقول الطبيب :" لا جدوى من المكوث عنده , انّه ميت ". فيحاول جوهان أن يصيح فيهم :" خذوني ... فما أنا بميت ". لكنّه لا ينبث ببنت شفة .

واذا عهد جديد يبدأ عند جوهان ! يراه شبح الموت , فيقبل نحوه ليعتقه , ويفصل نفسه عن جسمه . عندئذ يعلم جوهان أن الطبيب كان مصيبا" وأن الموت اخترمه في ريعان صباه , وأنّه آل في رهط كبير من أمثاله الى مصير واحد .

حشد ذاهل متراصّ ينتظر الأمر بارتقاء المركبة التي ستمضي به الى قضاته . وكأنّه قطيع يساق , قطيع نفوس أشبه بظلال شاحبة ! وعند اشارة من ملاك الموت , يتّخذ الجميع مواضعهم في مركبة العالم الثاني .

الا أن جوهان كان ذا حظوة بين أمثاله من صرعى الحرب . يراه الموت , فيحييّه , ويحاول انتشاله من الذهول الذي ما زال يشلّه : " أفيقي أيّتها النفس , أفيقي . كنت على الأرض كمن في هجوع . كنت تشيرين وتتحدّثين كأنّك آلة مسيّرة . كنت أشبه بانسان آلي . اختلجي بالحياة . ليسقط الحجاب الذي يعميك , ولتنكشفي لك الحقيقة .

ورويدا" رويدا" , تنبّه كلمات الموت جوهان , فيدرك أن الحياة على الأرض لم تكن الاّ حلما" أو اغفاءة يسيرة لم تستغرق من الوقت غير ما يستغرقه الكابوس .

ويردف الموت قائلا" : " والآن , هل عرفتني , يا جوهان ! " لكنّ جوهان لا يستطيع أن يدرك معنى هذا الكلام الذي لا عهد له به . فيباديه الموت بالقول :" هيّا , استعد ذكرياتك عن عالم الضباب . صحيح أن كلماتي لم يحن وقتها بعد , لكنني منعش , في الطريق , ذاكرتك . هلم , البث على مقربة منّي .

ستنبلج الحقيقة , الحقيقة التي تعول وتنوح علّنا نصغي اليها , الحقيقة التي تعصف كالريح كيما نحسّ بها .

الحقيقة هي الآن شاطئك الجديد , وأنت هو البحّار . وعلى قدر ما توغل في الرحلة , تكتشف ذلك العالم الجديد , فتستردّ ذكرياتك , وتربو كل يوم معارفك . وستدرك أن الحياة الدنيا ما هي الاّ هزأة . على أنّه لا بدّ منها كيما يعجم من الأنسان عوده " .

وتعظم حيرة جوهان في هذه اللغة الجديدة !

هوذا جوهان يصحب الموت , فيرودان في سرعة البرق عالما" كالثلج نصوعا" , عالما" صيغ من سحب رحاب غير محدودة .

ثمة طريق تتخلل تلال الغيوم , فتسلكها المركبات التي تقلّ النفوس , . وهي التي يسلكها الآن جوهان في جمع من الأفراد غفير . الموت يمضي بهم الى حيث الدينونة , الى عالم لا يعدو مستوى أرضنا . مركبة بطلنا وصحبه مجنّحة كالطائرة فيتسنّى للذين هم على متنها أن يروا الأرض . وهي اذا قيست بالكوكب السيّار الذي يجتازونه , لاحت لهم كحبّة رمل أو كهزأة . وذلك الكوكب انما هو " قصر العدل " الذي تلجه النفس لتدان .

ما أتاه كلّ منهم سيكون دينونته أو خلاصه . ما ثمة نسيان . سرعان ما ترفأ خروق الذاكرة في حضرة القضاة الذين لا يعدمون وسيلة لأنعاشها .

القضـــــــاة

قضاة أللّـه ماثلون هنالك . عدّدهم غفير . وهم على بيّنه مما ندبوا الى القيام به أمامه تعالى .

حكمهم مبرم . السماوات القت بين أيديهم مقاليد القضاء المطلقة , اذ وهبهم أللّه المعرفة , ومدّهم بالحكمة كما مدّ سليمان بها .

ما من أحد من قاطني الأرض – على كثرتهم الساحقة – بمغفول عنه . لكل امرىء سجل محفوظ يحصي عليه جميع ما يقوم به . وما السجلّ غير فيلم ينقل نقلا" دقيقا" كل خاطر , ويحفظ كل قول , بل أدقّ الحركات . وعلى الجملة , انما هو شريط تسجيل سينمائي أمين .

على أن الفيلم طويل جدا" , . فهو لا يصوّر حياة" واحدة" فحسب , بل أدوار الحياة السابقة كافة أو التقمّصات في خلال العصور . ذلك أن كلا" منّا قد عاد الى الأرض مرّات متعدّدة . فقد ساقتنا أعمالنا الى الولادة عليها غير مرّة في أحوال نستحقّها .

يمتحن القضاة فيلم كل نفس , ويوازنون بين تقمّصها الأخير وتقمّصاتها السابقة . انّهم يتحرّون التحسّن في سلوك البشر . وانّهم في أحكامهم لمنصفون .

من البشر من يرسلون الى النار لينالوا العقاب الذي يستحقّونه , فيكفّروا فيها عن آثامهم , وذلك قبل أن يتاح لهم الولادة ثانية على الأرض . ومنهم من يحكم عليهم بالعودة اليها مصابين بالعاهات , أو عميان , أو بائسين ... ذلك أن أعمالهم السابقة أورثتهم شتّى العاهات . الم يقل السيد المسيح للمقعد : " قم . لقد غفرت لك خطاياك . لا تعد الى الخطيئة لئلا تصاب بأسواء "؟ ! .

ليس لحد أن ينكر العدالة الالهيّة . كثيرا" ما يطرح السؤال :" لما هذا الولد سليم , والآخر أعمى , مع أن الوقت لم يتّسع له لأقتراف الجريرة التي يلزم عنها هذا العقاب ؟.. والجواب أن ذلك الولد ارتكب الجريرة في حياة سابقة , وهو الآن يحصد عواقب ما قام به .

التقمّص رحمة الهيّة اتيحت للانسان لتهذيب نفسه . فاذا تسنّى له أن يقهر التجارب الدنيويّة التي لا بدّ من اختبارها , أثيب . أللّه يعجم عود الأنسان , فيبلوه , ويضعه في شتّى الظروف الممكنة المعقولة . فقد تفيض الثروة عليه حينا" . وقد ينهكه الفقر المدقع والجوع حينا" آخر . قد يغدو من رجال القانون اللامعين , أو من ذوي ألشأن أو من عامة الناس ... المهم أن يفيد من وضعه فائدة روحيّة , فلا يسقط في تجربة الشرّ .

اننا , في كل ولادة نتحمّل نتائج الماضي . لذلك , تختلف أحوال ولادتنا بعضها عن بعض حتى أننا قد نصير , ذات يوم , فيلا" , أو سمكة , أو نبتة , أو زهرة , أو حجرا" , ألم يقل يسوع :" ان أللّه قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لابراهيم ؟".

والتقمّص انما يتحقق بواسطة السيّالات . ولكن ما هي السيّالات ؟

ألسيّالات نسيج الكون , ومبدأ كل حياة على الأرض . تنبثق من الأرواح الكلّية , أصل وحدتها . على أنّها تتباين بمظاهرها الخارجيّة . وهي لا تقتصر على الأنسان وحده , بل تتعداه الى الحيوان والنبات والجماد .

وتتفاوت السيّالات عددا" بين كائن وآخر . يولد كل منّا مزوّدا" بقدر من السيّالات معين هو علّة حياتنا على الأرض . وعندما يغادرنا آخر سيّال حيّ فاعل , يحصل ما ندعوه " الموت" .

وللسيّالات خصائص أخرى ... وهي انما تتحقق بما نقوم به من أفعال خير أو شر . وأن سلوكنا لا يسوقنا , من فوره , انّما الى درجة عليا  وامّا الى دركة دنيا , الأمر الذي يعللّ في الغالب , رجوعنا الى الأرض على وفق ما نرتقي , مع الزمن , من هاوية الآلام حتى نبلغ مستوى الأرض , فنولد عليها .

أمّا تذكّر تقمّصاتنا السابقة , فمثله مثل رسم فوتوغرافي ممزّق مبدّد . من المزق ما يقع على الأرض , ومنها ما تحمله الريح هنا وهناك ... فاذا لملم عابر سبيل بعضها تعذّر عليه التحقّق من هويّة صاحب الصورة حتى يستكمل جمع سائر الأجزاء المبعثرة . هذا ما يفسّر لماذا نولد على الأرض من غير أن تقوى على تذكّر تقمّصاتنا السابقة .

وعليه , فما يدان الآن انّما هو تلك السيّالات الغفيرة . تلج عالم العدالة , ثمّ تغادره , فتستقلّ المركبة المولجة بردّها الى العوالم المعدّة لها . ومن على بعض العربات يسمع الصراخ وصرير الأسنان .

القانون هو القانون . والعدالة هي العدالة . وما يزرعه الأنسان ايّاه يحصد .

على ان ما يعنيني الآن , قصة جوهان . يسلّمه الموت الى العدالة الالهيّة , بيرق أللّه , فيعرض جوهان حياته على الأرض حتى موته في ساحة المعركة , فيعاقب . الاّ أن بعض أعماله يكسبه الرحمة الالهيّة , فيدان بالولادة مرّة جديدة على هذه الحمأة الحقيرة , ويعطى فرصة تكفير عمّا اجترحه من ذنوب  .

ويسمح له أن يعرض , قبل الولادة التقمّصات التي عاشها , ويختار مسقط رأسه الجديد على الأرض علّه يجني من تقمّصه الآتي كبير نفع . وذلك بأن يسعى الى التكفير عمّا أنزله من أذى في بعض الناس , فيختار أين يقيمون , ويحاول الاجتماع بهم وتجنّب الوقوع في الأخطار نفسها .

ويتكفّل الموت به , فيركبه بقربه في العربة نفسها التي أقلّته الى قصر العدالة. وفيما هو يجمع المتوفّين , يطوف به شتّى البلدان التي عاش فيها .