info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "حدائق اللآلهة وفراديس الإلهات 20 كتاباً للدكتور داهش يرود جنّاتها الفاتنات الدكتور غازي براكس"

حدائق اللآلهة وفراديس الإلهات

 

20 كتاباً للدكتور داهش

 

يرود جنّاتها الفاتنات الدكتور غازي براكس

 

 

دكتور دولة في اللآداب

أستاذ مادّتي النقد الأدبي وعلم النفس الأدبي

في قسم الماجستير بكليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة

 

 

عذارى الفراديس

 

 

يا ربّات الخيال، وبنات السّحاب

 

أيتها العذارى اللواتي أراكن في تخيلاتي الفريدة

 

يا قيان الفراديس وعصافيرها الغرّيدة

 

أنتنّ أعذب  من الأحلام وأبهى من أسلاك النور

 

أنتنّ أشعّة سحريّة تتألّق في ظلمات الدّيجور

 

فتضفي عليّ بهاءً رائعاً يطلّ نوره مدى الأحقاب

 

 

                                                                                    من كتاب "بروق ورعود"

                                                                                      للدكتور داهش

 

 

" حدائق الآلهة توشّيها الورود الفردوسيّة" و" فراديس الإلهات يرصّعها اللينوفار المقدّس"(1) رائعتان في الأدب الوجداني مثلهما كمثلِ جنّة الله بين سائر الجنان، وسدرة المنتهى بين ذوات الأفنان؛ فهما تشاركان مولّدات الأدباء الملهمين في أصالة الإبداع، وصدق العاطفة، وإشراق البيان، ولكنّهما تنفردان عنها جميعاً بما تفيض به الينابيع الروحيّة القدسيّة من الرّؤى المعجزة للإنسان!

 

إنهما اللُحمة والسّدى لنسيج عجيب حيّ نسجته شرايين قلبٍ كبير أحياه لطف النسائم وجبروت الإعصار؛ بل هما وجها كوكب سحريّ دريّ أبدعه خيال داهش وعقله الجبّار، ليطلق في مدار الحياة ما دامت الأرض في مدار!....

ولا تطمح هذه الدراسة لأن تكون أكثر من مدخلٍ يقود القارئ الى المتحف الفردوسيّ، ثم توقفه عند منبع الملذّات التي يرتشف منها كلّ متذوّق أصيل يجد نفسه أمام لوحات رائعة تُبدعها قدرة الفنّ العظيم، الفنّ الذي يولد من اقترانِ ربِّ الصدق بإلهة البَسَاطة، ويحيا بروحِ الجمال، ويتغذّى بخبزِ الحقّ والخير، الفنّ الذي يبقى رائعاً يسمو بالحياة حتى في تصويره القباحة والسيّئات.

ومن يخض عباب هذا الأوقيانوس الزخّار بأفكار داهش وعواطفه، والموّار بغضباته ولطائفه، لا بدّ من أن يفاجأ حيناً بالشمس تراقص أنوارها زبد الأمواج، فإذا العسجد واللجين في حفل زواج، وإذا السماء والبحر في عرسِ ابتهاج؛ وحيناً يفاجأ بأطباق من الغمام، وبدفعات كثيفة من الدجنّات والادلهمام، وبغضبِ العناصر المُهتاجة تصكّ منه العظام، فيطغى عليه الذعر ويجتاحه كابوس الموت الزؤام!...

إنهما وجها هذا الكوكب الوجدانيّ: واحد يلفّه قتام الحياة، تصطخب فيه آلام داهش وأحزانه، من حقارة البشر ومفاسدهم، ومن غربته الروحيّة بينهم ومعاناته القاسية لما سبّبوه له من عذابٍ وأهوال، فينتقم عليهم، ويذيقهم من سخطه شرّ الوبال؛ ووجه آخر تلتمع فيه ومضات من الفرح والغبطة، كاشفة عن سعادة الفراديس التي يحلم ببلوغها، وسلوى الطبيعة الفاتنة والمرأة المؤمنة اللتين ينشد فيهما بعض عزاء، ريثما تسطع شمس الرسالة الداهشيّة وتفتح له أبواب السماء.

ولذا جعلت هذه الدراسة السريعة في فصلين: المأساة أو الوجه القاتم، ومنافذ الأمل والعزاء والسعادة أو الوجه المشرق.

وكأنّما المؤلّف كان يتمنّى لو كانت الحياة كلّها نوراً، ودروب الإنسان لا تنبت إلاّ وروداً وزهوراً، فأخرج لنا كتابه بمتعدّد أجزائه وكأنّها مشاهد الفردوس الساحرة يرضي بها ذوقه الفنيّ الرهيف، ويعزّي نفسه عن هذه الدنيا الفاسدة الفاجرة .

 

 

الفصل الأوّل

المأساة

أو الوجه القاتم من الكتاب

 

أولاً- حقارة الإنسان ومفاسده

 

الخبرة التي هي تاج الشيوخ الذي تصوغه تجارب الأيّام وأيدي الأعوام، والحكمة التي هي زبدة الأجيال والأحقاب، كلتاهما ليستا من ثمار الشباب.

ومع ذلك نقف أمام داهش وهو في بداية عقده الثالث، فيدهشنا الرجل الحكيم الذي يطلّ منه لابساً بردة الشباب؛ فكأنّه حلب من الدهر شطريه، وخبر الناس خبرة من يواكب العصور لا السنين، وكأنّ الحياة قد أسلمت إليه مفاتيحها وقوانينها، وفضّت له أسرارها، وكشفت لعينيه أغوارها، فخاضَ غمارها، وأذلَّ زخّارها، وهتكَ الحجب عن لآلئها وجحارها، وهو ما يزال في ضحى نهارها!..

وفي سنة 1933 يكتب قطعة عنوانها" حقارة البشر وضعتهم"، يرسل فيها حكمه على الناس بعد أن يعرّيهم من قشورهم، ويجرّدهم من أقنعتهم، فإذا هم أخساء تافهون وأشرار فاسدون.

هذا الحكم الحاسم الجازم لم يبدّله قطعاً كرور السنين، إذ نقرأ المؤلّف، بعد أربعة وأربعين عاماً، في " لن يتّعظوا" (2/4/77) ، فإذا سيفه المُسلّط عليهم قد ازداد رهافة، ويأسه من إصلاحهم وارتقائهم قد تفاقم؛ ذلك بأنّ الأرض يراها دركة من الدركات، ومن المُحَال جعلَ الجحيم نعيماً.

وبين التاريخ الأوّل والتاريخ الأخير يكتب الدكتور داهش عدداً من القطع الوجدانيّة تتناول تفاهة البشر وقيمهم الباطلة، وانغماسهم التامّ الدائم في مستنقع الرذائل؛ ولا يكتفي بعرضِ مفاسدهم، بل يفجّر على رؤوسهم العقيمة غضبه الرعديّ البركانيّ، وينذرهم بمصير شيطانيّ جحيميّ.

فهو يُسْقط ابن آدم المتألّه عن عرشه الزائف ليمرّغ أنفه بالرّغام، ويظهر له أنه لا يفقه شيئاً من أسرار الحياة، وأنّ معرفته أدّعاء وهباء، وأدبه وذكاءه دخان في الهواء!

ويحلّل نفسيّة الناس، مُمِيطاً اللثام عما تجيش به من المطامع الرذائل...فهم يتهالكون على الدنيا كأنّهم مخلّدون فيها، في حين أنّ الموت لهم بالمرصاد عند كلّ خطوة من خطواتهم؛ وهم غائصون في الشرور والمفاسد من أخامص أقدامهم حتى قمّة هامهم، ومع ذلك يدّعون الفضيلة مزورّين معناها. يأتون الدنيا أفواجاً، ويغادرونها أفواجاً، وهم يخبطون فيها خبطَ عشواء، تحشوهم الكبرياء، ويكسوهم السُّخف والغباء، ويدثّرهم المُكر والرياء؛ المال يعبدونه، وشهوة الجنس تعميهم وتستبدّ بهم، والظلم يقودهم ويُمْلي عليهم تصرّفاتهم، وهم في الموبقاتِ والقذاراتِ سواء، أفراداً وشعوباً، محكومين وحكاماً (2).

ففي قطعة "لن ينجع فيهم دواء" (4/2/75) يصف لنا أحد متسنّمي المناصب الحكوميّة قائلاً:

"هو مُتكبّر، مُتعجرف، مغرور، أحمق ودون وفاء.

يرصّع صدره دوماً بوردة قانية حمراء.

ويدفع بصدره الى الأمام كأنّه راية الحلفاء.

وإذا حدّثته زمّ شفتيه كأنّك نملة عجفاء!"

 

لكنّ هذا المجرم الفاسق الخاوي الرأس ما كان ليعتلي المناصب العليا أعواماً تلو أعوام لو لم يكن الذين يساندونه فُسّاقاً مثله وتافهين. فكما تكونوا يولَّى عليكم.

وانظر الى الصورة الواقعيّة التي يرسمها المؤلّف. فما أمرَّ هزءها بالمظاهر التافهة الباطلة، وما أشدّ احتقارها للانتفاخ الأجوف الذي لا تجده إلاّ في الطبول الفارغة، وما أبرع الخيال فيها وهو يجسّم الواقع، محيياً إيّاه بالتصوير البارع!

إذن، أليس من عظماء في الأرض؟

إنّ من يسمّيهم الناس "عظماء"، يسميهم الدكتور داهش"فقاقيع" (17/11/75)؛ حتى البارزون الأفذاذ من الفاتحين لا يراهم سوى طبول مدوّية جوفاء، ولا يؤمن بالعظمة الحقيقيّة إلاّ في الأنبياء؛ فوحدهم يشقّون طرق الهداية ويمدّون الجسر الواصل بين الأرض والسماء.