info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "الداهشيّة حقيقة روحيّة تؤيّدها المعجزات"

 

الداهشيّة

حقيقة روحيّة تؤيّدها المعجزات

 

من لبنان من بلاد أرز الربّ , أخاطب الإنسان الضائع , الهارب من قلق نفسه , ومن أشباح مأساته , الباحث دونما جدوى عن الطمأنينة . من أرض المشرق , أرض الأنبياء , أخاطب إنسانيّة أسكرتها كبرياء الإكتشافات العلميّة , وخدّرتها خمرة  الأطماع , والشهوات الدنيويّة , فنزفت جراحها , واقترب الفناء الرهيب حثيثاً منها , وهي ما فتئت تظنّ أنّ نضارة الحياة ما زالت ملء جسدها .

للساعين وراء الحقيقة الهادية , وهي تهرب منهم , أقول  : لو كانت الهداية في نظريّات المفكّرين , واجتهادات الفقهاء , وأراء الزعماء , والأرض ملأى بهم , إذن لسطعت شمسها , وتوحّدت إشعاعاتها , واطمأنّت في نورها العقول . لكن الحقيقة الهادية بعيدة عنهم , فهي ترفض التجزّؤ والتناقض , وتأبى أن تكون أوهاماً وافتراضات , ونتائجها شرّاً ورذيلة وفساداً , لأنّها وجود حيّ يجب أن يفعل فعلاً خيّراً في الفرد والمجتمع .

للباحثين عن السعادة في الإغراءات الجنسيّة , والمتع الحسّية , والأمجاد الماديّة , والإغراق في الرفاهية , أقول : لقد حان الوقت لتصحوا من خدركم , فتدركوا أنّكم تبصرون سراباً لا ماء , وتقبضون على جمر يحرقكم وأنتم لا تشعرون , وأنّكم تحاولون الهرب من كوابيس الفواجع الجاثمة فيكم وحولكم , بمجرّد إغماض   العيون , وهذا منتهى الجنون .

فما الذي يبهر عيونكم , يا بني وطني وأبناء الأرض ؟

أمدنيّة غربيّة أم شرقيّة ؟ ومدنيّة العالم , اليوم , شجرة امتدّت فروعها , وتعالت  أغصانها , حتى كادت تملأ الأرض وتلامس السماء , لكنّها شجرة إن بهرت البصر , بكت لها البصيرة , لأن لبّها بدأ ينخر , ونسغ الحياة فيها أخذ يجفّ , وجذعها يتهيّأ لضربة الفأس القاضية , وأغصانها تعدّ محرقةً للنار العظمى .

ما الذي يفتن عقولكم , يا بني وطني وأبناء الأرض ؟

أسفن فضائيّة تحطّ على القمر ؟ والظلم مستشر في نفوس البشر ! حقوق تؤكل , وأراض تغتصب , ومشرّدون يتعيّشون على البؤس والجهل والأحقاد ! وضعفاء بين أنياب وحوش أسياد ! أم تفتنكم مصانع جبّارة , وأسلحة قهّارة , ومختبرات عظيمة , ومكتشفات عجاب , ومبان تناطح السّحاب ؟ ونفوس الناس خراب يباب , والسيّد الآمر الناهي شريعة الغاب !

من الشواطىء التي أطلقت الحرف الى أرجاء المعمور , من المشرق الذي بزغت فيه شمس المسيحيّة والإسلام على العالم تبدّد الديجور , من مهبط الوحي العريق , تعود الحقيقة الروحيّة الحضاريّة الكبرى لتظهر , فتنبّه ضمائر الراقدين , وتبعث الأمل في قلوب اليائسين , وتزف عكّاز الهداية للعميان والمقعدين , وتقدّم خشبة الخلاص لركّاب سفينة الأرض الغارقين ؛ إنّها الحقيقة الداهشيّة .

 

 

فما هي الداهشيّة ؟

 

قبل أن أقدّم خلاصة عن حقائقها الروحيّة , لا بدّ من إيضاح .

في القسم الثاني من هذا الكتاب , ذكرت عدداً وافراً من خوارق الرجل العظيم , وكلّها محسوس دامغ الحجّة , ثابت على الزمن وفي الصور , مؤيّد بأسماء عشرات الشهود من الإختصاصيين والمثقّفين النابهين , وذلك يصفع شكوك المفترين المكابرين والمؤوّلين المعجزات الحقّة تأويل خداع أو إيهام .

إنّ المح   و بعد , فمن هو داهش؟

إننا لا نؤمن به إلهاً, بل نؤمن بأنه هاد من هداة الله طبقاً للآية القرآنية الكريمة :" و لكل قوم هاد " (سورة الرعد : 7 ) . و نحن قوم تبلبلت أفكارنا , و تجزّأت أدياننا و تناحرت مذاهبنا و شاع الكفر فينا , و تغلب النفاق على الإيمان , فتدخلت رحمة الله , و أرسلت إلينا هادياً , يهدينا الى سبيل يخرجنا من حيرتنا و اضطرابنا و مآسينا , ويعيد الينا الثقة بالمسيح و الأنبياء والإيمان برب العالمين .

و من الهداة من وهبهم الله عقلاً نيراً و نفساً نقية , كسقراط و غاندي و الإمام علي , و منهم من أيدهم تعالى  بروح من لدنه , فصنعوا المعجزات  بقدرة العليّ , تصديقاً لدعوتهم الروحية . والروح , كما قال السيد المسيح : " يهب حيث يشاء" ( يوحنا 3: 8 ) , و قد شاء أن يهب في لبنان , أفنرفضه  فنكون من الأغبياء الخاسرين ! والخالق سبحانه هو الذي يختار من يريد من الناس لإحلال روحه فيه , تصديقاً لقوله :" رفيع الدرجات , ذو العرش , يلقي الروح من أمره  على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاقي" (غافر:15) , و قد شاء أن يلقي الروح على رجل من أرض الأنبياء هو داهش. أفنناقش الله و نرفض مشيئته ؟

لم يبارك التاريخ مضطهدي سقراط و بوذا و المسيح و الرسول العربي و غاندي , بل لعنهم , و خلد اولئك الهداة و الرسل والمصلحين , و خلّد رسالاتهم . أما المؤسسات و التكتّلات و الدول كلها التي قاومتها , فقد قضى التاريخ عليها بالفناء و دمغها باللعنة الأبديّة .

ذلك بأن الحضارات لا تقوى على البقاء الاّ بغذاء القيم الروحية. و كل شعب تخلى  عنها مصيره الإنحلال و التبدد , مهما تعاظم وشمخت مدنيته , و مهما صال و جال الباطل فيه , فالباطل دولته قصيرة , و التاريخ شاهد على ذلك . و القيم الروحية لا سياج لها إلاّ الرسالات السماويّة و الدعوات الإنسانية .

حتى الحركات الإجتماعيّة الثورية تستمد مقومات إصلاحها من تلك القيم . فالعدالة و الأخوة و التعاون ورفع الظلم و الإستثمار التي تنادي بها , تجد أصولها في الرسالات الروحيّة الصحيحة . و القيمة الحقيقيّة لكل حركة إصلاحيّة تكون بنسبة تطبيقها تطبيقاً عمليّاً تلك القيم الروحيّة .

و إذا كان المتاجرون بالقدسيات قد أفرغوا الأديان من معناها الروحي  القويم , كوجود حي سام  فاعل في الإنسان فرداً و جماعة ,ليجعلوها نظريات و غيبيات و أدوات لكسب المغانم  و بسط النفوذ , فإن الداهشيّة , بمشيئته تعالى , ظهرت لتدعو الى إعادة الأديان لنقائها الأصلي و تأثيرها الخير الحيّ ووحدتها الروحيّة , فتبني نفوس الناس فرداً فرداً, مواطنين شرفاء أنقياء السريرة , أبطالاً أحرارا ًمتعاونين متحابين  عادلين , أناساً تسامى فيهم الإنسان , وتصاغرت البهيمة .

فالأنظمة مهما كانت صالحة لا تؤدي وحدها الى أي إصلاح حقيقي إذا كان الإنسان فاسداً . فالإنسان وجد أولاً , و النظام من أجله وجد . و هل يمكن  بناء صرح قويّ , مهما كانت عبقرية مهندسه, إذا كانت حجارته سريعة التفتت ؟ و ماذا ننتفع بالكأس , و إن تكن ذهباً ما دام الماء فيها سمّاً زعافاً , و نحن عطاش ؟ و هل تتبدل قيمة اللوحة التافهة إذا ما أحيطت بأطار ثمين ؟ فكل إصلاح جذريّ , لا يبلغ هدفه ما لم يصلح الفرد نفسه .

ألا فلنرفع الغشاوة عن بصائرنا , و لنع أننا لسنا وحدنا في الكون , فنكف عن الإستكبار و التأله . و لندرك أن الإرتقاء الصحيح يقضي بأن نتخذ لنا مطلقاً صحيحاً فنجعل الله كمالنا و غايتنا الأخيرة , لتستقيم الطريق  التي تبلغنا السعادة العظمى . الا فلنفهم أن اضطراباتنا و ضعفنا و تخلفنا و مشكلاتنا و حيرتنا و شقاءنا سببها كلها نحن , و نحن مختارون و مسؤولون . و ما لم نغير أنفسنا , فلن تغير أوضاعنا . أما قال العليّ : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( سورة الرعد : 11) ؟

*              *                *

اكم المدنيّة والجزائيّة تصدر حكمها في أيّة قضيّة – وقد يترتب على الحكم حياة أو موت – إذا ما تهيّأ لديها بضعة إثباتات مادّية وبعض شهود . وخوارق الدكتور داهش معروضة أمام محكمة العالم منذ نصف قرن ؛ وألوف هم الشهود الذين يؤكّدون صحّتها , وفيهم مدّعون عامّون , وقضاة كبار , ومحامون لامعون , وأطبّاء مشهورون , وأدباء , وأساتذة جامعيّون , وصحافيّون من مختلف الجنسيّات . أفلا  يكفي هذا الحشد من الشهود لتتنبّه الضمائر الحيّة , وتتجرأ النفوس الشريفة  فتعلن الحقيقة الروحيّة الكبرى , بصوت مدوّ في كلّ أنحاء العالم ؟ ! خصوصاً أنّ بين الشهود مئات ممن يجمعون الى الكفاءات الثقافيّة العالية سيراً نقيّة وأخلاقاً سامية ؛ إذ فضّلوا التخلّي عن مناصبهم ومكاسبهم المادّية , ودخول السجون , ومعاناة الإضطهاد والآلام  , على أن يتخلّوا عن إيمانهم بحقيقة تيقّنت منها عيونهم , واقتنعت بها عقولهم , واهتزّت لها قلوبهم .

فإن كانت الكفاءة العلميّة لا يوثق بأهلها , والكفاءة المسلكيّة لا يطمأن الى شهادة أصحابها , فما الذي يجعلنا نؤمن بالحقائق العلميّة وهي ألوف ,  ولم يختبرها منّا إلاّ القلائل ؟ إذ من يجرؤ على الزعم بأنّه قاس سرعة النور بنفسه , وفحص تكوين الذرّة بعينه , وحلّق بين الكواكب , وغاص في أعماق البحار , ودرس ما فيها من أسرار , مطّلعاً بنفسه على كلّ الحقائق العلميّة التي يسلّم بها دونما جدال ؟ !

وما الذي يجعلنا نؤمن بمعجزات السيّد المسيح ؟ ونحن لم نر منها معجزة واحدة , ولم يخبرنا بها أحد من المؤرّخين أو المعارضين , إنما عدد قليل جدّاً ممن آمنوا بها , بعد أن رأوها أو سمعوا عنها !

إنّ المنطق السليم يجعلنا نؤمن بالحقائق العلميّة كما نؤمن بمعجزات المسيح , لأنّ الذين خبروها وشهدوا لها كانوا يتمتّعون إمّا بكفاءة ثقافيّة أو بأمانة خلقيّة , فكيف بنا والشهادات على معجزات الدكتور داهش تتواتر وتتكاثر حتى الألوف , ومن أنصاره وأخصامه على السواء , ومن عدد كبير من الذين يجمعون العلم الرفيع الى الخلق النبيل ! وكيف بنا ورجل الخوارق ما زال حيّاً بيننا , يستقبل عشرات الوافدين يوميّاً , فيصوّر عجائبه المصوّرون , ويحتفظ بإثباتاتها المادّية الزائرون , ويخرج الكافر من لدنه مؤمناً باللّه وأنبيائه دونما تفريق , ويخرج المعاند المكابر شاهداً لحقيقة المعجزات , وإن لم يؤمن , لعلّة فيه , بدعوة صاحبها . ولا عبرة بقلّة ممن زاغت قلوبهم , وعميت عيونهم , واستؤجرت أقلامهم , فآثروا الباطل على الحقّ ؛ فدولة الباطل ساعة , ودولة الحقّ الى قيام الساعة .

ومع ذلك , فما دام الرجل بيننا , فلكم الحقّ في أن يكون إيمانكم كإيمان توما مبنيّاً على اللمس . فقد سعينا وتيقّنا , فما عليكم إلاّ أن تسعوا لتتيقّنوا . ولكن , " طوبى للذين آمنوا ولم يروا " ( يوحنا 20 : 29 ) , كما قال سيّد المجد .

من المعجزات التي ثبتت , إذن , لدى الألوف , ننطلق لإعلان الحقائق الروحيّة الداهشيّة , فيكون سيرنا , لا في فضاء النظريّات والتخمينات الفلسفيّة أو اللاهوتيّة , بل على أرض الواقع الصامد .

 

 

الحقائق الداهشيّة

لئن استطاع العلماء أن يكشفوا عن بعض أسرار الوجود , فما يزال مغلقاً دونهم ما لا يحصى منها . ولذا فهم يقفون وسط بحار المجهول المحيطة بهم حائرين خاشعين .

لقد أثبتوا , بعد مراجعات كثيرة , وتجارب طويلة , وجهود جبّارة , أنّ الجماد ليس جماداً , فالحركة تحييه , كما تحيي غيره من أنواع الكائنات , وأنّ في أساس تكوينه , كما في أساس تكوينها  , الطاقة الكهربائيّة المغنطيسيّة , وأنّ هذه الطاقة لا تفنى , فهي محفوظة في الكون .

ولكن , ما سرّ هذه الطاقة ؟ وما مصيرها بعد زوال مظاهرها المحسوسة ؟ وما صلة الإنسان الجوهريّة بغيره من الكائنات ؟ وكيف تتطوّر الحياة ؟ وماذا قبل الولادة وبعد الممات ؟ هذه الأسئلة ومتفرّعاتها , ما برح العلم عاجزاً عن الإجابة عليها .

أمّا الإجتهادات  الفلسفيّة , والتأويلات المذهبيّة , فتناقضاتها تزيد الإبهام والبلبلة , وقيمتها تلزم صعيد التخمينات والنظريّات , فلا تكتسب قوّة الحقائق الواقعيّة .

وهنا خطورة معجزات داهش , فهي تستبق العلم في ما تزفّ الى المعرفة البشريّة من فضّ أسرار وإيضاح غوامض , وفي ما تهدي الى الحائرين من أمر دينهم ودنياهم نوراً ساطعاً يضيء لهم الطريق .

حتى الأمس القريب , كان العلم هو السبّاق , والمذاهب الدينيّة تحاول اللحاق به , جاهدة مرغمة . حسبنا الإلماع الى مأساة غاليليو ( 1564 – 1642 ) , ومقاضاة محكمة التفتيش الكنسيّة الرومانيّة لتقدّم المعرفة بمقاضاته , كما الى الحكم الذي أصدره بيوس العاشر , سنة 1907 , ضدّ الحركة العلميّة الحديثة .

أمّا اليوم , فالمعجزات الداهشيّة هي التي تطرح التحدّي على العلم , فيجري وراءها لاهثاً . ذلك بأن الداهشيّة ليست نظريّات وافتراضات , بل حقائق روحيّة مدعومة بالبراهين المحسوسة . وللمرّة الأولى في التاريخ , يرفع القناع عن المجهول بهذه القوّة والعظمة .

فما هي خلاصة هذه الحقائق ؟

يمكن إجمالها بأربع :

1 – وجود الروح وخلودها .

2 – السيّالات الروحيّة هي نسيج الكون وقوام كائناته .

3 – السببيّة الروحيّة والجزاء العادل .

4 – التقمّص .

 

 

الحقيقة الأولى :

وجود الروح وخلودها

 

الكتب الدينيّة كلّها تحدّثت عن وجود الروح , كذلك أكثر الفلاسفة . ومع ذلك , فليس من عصر شاع فيه الإلحاد والتشكيك بوجودها كهذا العصر . ذلك بأنّ الناس باتوا لا يؤمنون بالمجرّدات . فهم يطالبون بإثبات ماديّ لوجود الروح يكون بمستوى العصر , لآنّ العلم المنتشر في أرجاء المعمور رسّخ في أذهانهم منهج التحقّق الماديّ الإختباريّ .

وليس ثمة من برهان ماديّ ساطع على وجود الروح إلاّ المعجزة . فهي " بخرقها " قوانين الطبيعة الأزليّة التي تحكم البشر جميعاً , تثبت أنّ القدرة التي تصنعها لا يمكن أن تكون قدرة بشريّة . فأعظم الإختراعات , وإن تكن الصواريخ والسفن الفضائيّة , لتبدو ضئيلة باهتة لصاحب البصيرة النيّرة , حيال أيّة معجزة من أي نوع كانت . ذلك بأنّ المنجزات العلميّة ليست سوى أعمال بشريّة يستفيد بعضها من بعض , ويبنى أللاحق منها على السابق , ومهمّتها محاولة الكشف عن المزيد من أسرار الطبيعة والإستفادة منها ؛ وهي لا تستطيع خرق قوانينها , بل تجاريها . وكلّ إنسان بوسعه القيام بالأعمال العلميّة إذا  ما راعى الشروط والظروف والوسائل المادّية المقتضاة . أمّا المعجزة فليست من قدرة البشر , وإن احتشد لها علماؤهم من جهات الأرض الأربع .

فهل إستطاع الأطباء , على التقدّم العظيم الذي حقّقوه , أن يشفوا أيّة علّة أو إصابة عضويّة بغير عقاقير , أو دونما لجوء الى عمليّات جراحيّة لدى الإقتضاء ؟ هل إستطاعوا أن يقفوا , مثلاً , أمام برصاء متهرّئة اللحم ويقولوا لها : فلتشفي . وتشفى على الفور ؟

أو هل يستطيع العلماء مجتمعين أن يحوّلوا ورقة يانصيب خاسرة الى ورقة رابحة بمجرّد أمرها ؟ أو أن يكوّنوا صحيفةً , قبل صدورها , بعدّة أيّام , بمجرّد قولهم : كوني , فتكون ؟

ذاك لم يحدث ولن يحدث , لأنّه لو جرى , لخرج الإنسان عن طبيعته البشريّة , وأصبح إلهاً , أو روحاً تطيعه المادّة وتخضع له القوانين التي ما أرادها أللّه تخضع إلاّ لمشيئته , لأنّه مبدعها وحافظها .

أمّا الدكتور داهش فقد إستطاع ذلك , ويستطيعه يوميّاً , لكن ليس بقدرته البشريّة , بل بقوّة الروح العليّ الذي اتّخذه إناءً مختاراً , ليصنع معجزات الهداية , على يديه .

وفي القسم السابق من هذا الكتاب , ذكرت مفصّلاً عشرات المعجزات الملموسة الدامغة التي إجترحها رجل اللّه , أمام مئات من الشهود المثقّفين الكفوئين , مما يدع أعاظم العلماء والمفكّرين , في حيرة وذهول , خاشعين عاجزين .

فإزاء هذه الخوارق لا يسع ذا البصيرة النيّرة إلاّ التسليم بوجود قوّة روحيّة تتخطى القدرة البشريّة , وتخرق القوانين الطبيعيّة وتهيمن على الكائنات , تماماً كما يسلم المرء بوجود الطاقة المغنطيسيّة من جرّاء ملاحظته تأثير جاذبيّتها على بعض الأجسام , مع أنّه لا يستطيع القبض على الطاقة المغنطيسيّة .

فإذا ما زدنا الى خوارق الدكتور داهش التي لا تحصى , مئات من النبوءات سلّمها الى مئات الأشخاص , إزداد يقيننا بوجود هذه القوّة الروحيّة المتفلّتة من قيود الزمان والمكان التي تكبّل كلّ بشريّ .

ومن هذه النبوءات ثلاث تتعلّق برئيس الجمهوريّة اللبنانيّة الأسبق , بشارة الخوري :

الأولى , سلّمت الى عقيلته السيّدة لور في 13 تشرين الثاني 1943 , إثر إلقاء السلطة الفرنسيّة القبض عليه ؛ وذلك بعد توسّلها الى الرجل الخارق لإطلاعها على مصير زوجها , وذلك بواسطة شقيقتها الأديبة ماري حدّاد التي كانت آمنت بالرسالة الداهشيّة . وممّا جاء فيها أنّ بشارة الخوري سيعود الى الحكم في 22 تشرين الثاني 1943 , مع إيضاح ملابسات الأحداث التي ستجري .

والثانية نشرتها جريدة " الصحافيّ التائه " في 20 شباط 1944 ؛ وخلاصتها أنّ إضطهاداً سيشنّه بشارة الخوري على الدكتور داهش , وسينزل جزاء روحيّ بالمضطهد , وذلك بكسر يده من كتفه , فيضطرّ الى قصد القدس للإستشفاء , في 15 شباط 1945 . وقد تمّت النبوءة بحذافيرها , مع العلم أنّها نشرت , قبل نحو عام من وقوع أحداثها .

والثالثة تكشف تاريخ موت بشارة الخوري , وقد اطّلعت عليها إبنته السيّدة هوغيت كالان بواسطة صديقتها السيّدة وداد نفّاع .

ولو أردنا تفصيل كلّ النبوءات الداهشيّة لملأنا بها مجلّداً . حسبنا الإلماع الى نبوءاته بفوز الأستاذ بشير العثمان في الإنتخابات النيابيّة , مع ذكر عدد الأصوات التي سينالها , وسقوط السيّد محسن سليم , ومصرع الرئيس الأميركيّ جون كندي , وقد تسلّم النبوءة به عشرات الأشخاص , منهم المحامي والوزير السابق إدوار نون , وذلك قبل مقتله بمدّة طويلة (35) .

كلّ تلك الخوارق والنبوءات تلزم الواعين  من البشر الإيمان بوجود الروح وقدرتها . وذلك يستتبع , لزاماً , التسليم بثلاثة أمور :

1 – الإيمان بوجود اللّه عزّ وجلّ ؛ لأنّ الروح تشهد له , فهي نفثة إلهيّة من ذاته , لا يشوبها دنس , ولا يلطّخها أيّة كثافة " مادّيّة " . وهو مبدعها ومعادها . ولأنّها من جوهره الخالد فهي خالدة .

2 – الإيمان بوحدة الأديّان ؛ لأنّ روحاً عليّاً واحداً أوحاها , وغاية سامية واحدة حرّكتها ؛ وبالتالي السعي نحو تحقيق هذه الوحدة في وجود واقعي حيّ .

3 – التسليم بمعرفة الروح الخارقة المحيطة بالأسرار كافّة , والعمل بإرشاداتها الخيّرة .

 

الحقيقة الثانية :

السيّالات الروحية هي نسيج الكون و قوام كائناته 

 

و السيّالات الروحية تعني قوى إشعاعية حية غير منظورة هي امتداد للروح في العوالم الماديّة .
و السيّالات جميعها ذات إدراك و إرادة و نزعات , لكن على درجات متفاوتة .

و قد تأكد لنا , من مئات المعجزات التي شاهدناها و شاهد مثلها الألوف غيرنا , أن السيّالات الروحية هي نسيج الكون و قوام كائناته ؛ هي الجوهر الخالد الذي يوحد الموجدات , و إن اختلفت مظاهرها المحسوسة . و ليست الطاقة الكهربائيّة المغنطيسية التي اكتشف العلم أنها في أساس الوجود كله إلاّ صفة من صفاتها .

فخصائص الحياة النفسية ليست في الإنسان فقط , بل هي أيضاً في الحيوان و النبات و كل ما يسمى " مادة " .

ووجود السيّالات في البشر , على تفاوت في العدد , و الميزة , و الدرجة , بين فرد و فرد , هو الذي يسبب تباين القدرات الجسدية والعقلية , و اختلاف الميول و المواهب النفسية عندهم . كما إن انسجامها و سموها في الإنسان يبعثان السلام و الاتزان في نفسه , وتناقضها و انحطاطها يسببان الاضطراب و الاختلال . كذلك , فإلى تشابهها  أو تباينها , في الأشخاص و الجماعات , يعود التجاذب والتحابّ , أو التنافر و التباغض .

هذه القضايا البشرية , ما يزال المشتغلون في علم النفس يحاولون الوصول الى تفسيرها , جاهدين , من غير أن يطمئنوا الى رأي صائب يتفقون نهائياً عليه , بينما أدركت الداهشية حقيقتها و سرها من زمن بعيد.

و قد أتيح لي , كما لكثيرين غيري , أن نتيقن من أن الفناء الذي يطرأ على الأشياء , إنما هو تبدل محصور في مظهرها الحسي النسبي , و لا يمس جوهرها الحي .

فمراراً كنا نحرق أشياء مختلفة , بينها أوراق مالية , و سندات أو صور أو مخطوطات , أو تحطم أمامنا كؤوس بلوريّة و ما أشبه , ثم يعيد الدكتور داهش تكوينها , كما كانت , بلمح البصر , و بقوة الروح العليّ . و شهود هذا النوع من المعجزات يعدون بالمئات . أكتفي منهم بذكر النائب السابق محسن سليم , و الأديب جورج حداد , و الوزير السابق المحامي إدوار نون , و السيدة ناديا غبريال , والسيدين أنجلو بولو و امين نمر . وسبق أن فصّلت في القسم الثاني من هذا الكتاب , معجزة إحياء العصافير الميتة أمام الشيخ منير تقي الدين و الصحافي إسكندر رياشي.

فهذه المعجزات التي تعيد الحياة الى الميت , و الشيء الذي احترق أو تحطم , الى وجوده السابق نفسه , إنما تؤكد أن السيّالات الروحيّة خالدة , سواء أكانت في الإنسان أو الحيوان أو النبات أو الجماد .

أما الحقيقة الأغرب التي أوضحتها الداهشية , فهي أن كل كائن , بل كل عمل أو رغبة أو فكر , يكون لها نموذج حي او صورة أو تسجيل تحفظ  روحياً  في عوالم خاصة , كشهود على حياة الكائن و سلوكه و أعماله . و إيضاح ذلك يتم في المعجزات التالية :

في 11 حزيران 1943, عقدت جلسة روحية كان من حاضريها الأديب جوزف حجار , و عقيلته السيدة آندره , و مؤرخ الوقائع الداهشية حليم دمّوس .

و ما إن ارتعش داهش بالروح , حتى سمع الحاضرون حفيف أجنحة خفيّة , سرعان ما تبعه تجسد حمامة ناصعة البياض ظهرت في فضاء الغرفة المغلقة , و حطت على كتف السيدة آندره , و في منقارها عرق زيتون أخضر يقطر ماء .

و قد أوضحت الروح , بفم الدكتور داهش , أن هذه الحمامة إنما هي حمامة نوح نفسها . و قد حفظ سيّالها , بعد موتها , في عالم روحي خاص . و كذلك عرق الزيتون , و الماء الذي يقطر منه , حفظ سيّالاهما , أيضاً , بعد زوالهما . وهكذا كل موجود بعد تلاشيه .

و مكثت الحمامة في منزل الرسالة الداهشية ما ينيف على ستة أشهر , كانت في أثنائها تطير من غرفة الى أخرى , و تحط على أكتاف الزائرين , و تأكل من أيديهم بطمأنينة , حتى إذا حل صباح  27 كانون الأول 1943, شاهد المجتمعون في المنزل , تلك الحمامة العجيبة تحوم فجأة حول رأس رجل الروح , ثم تمضي تحوم فوقه مصعدة في فضاء الغرفة , و حجمها يتضاءل شيئاً فشيئاً , حتى تصبح بحجم النحلة محتفظة بشكل الحمامة ؛ و تستمر تصغر , حتى تعجز العيون عن إبصارها . و هكذا تعود الى العالم الذي هبطت منه .

كذلك , فعشرات هي المرات التي كان يفاجأ فيها زائرو الدكتور داهش باطلاعهم عنده على أحاديثهم  مسجلة بحرفيتها , و أفكارهم الصامتة مدونة  بخلجاتها , و أوضاعهم المختلفة مصورة بتفاصيلها. ذلك ما جرى مع السيدة رسمية الحريري و زوجها , و السيدين شفيق المقدم و مصطفى الخطيب , و الآنسة إيلين ضاهر و شقيقها نقولا , و غيرهم كثيرين . مع العلم أنهم كانوا , ساعة حديثهم أو تفكيرهم أو عملهم , منفردين في منازلهم , بعيدين عنه .

بهذه المعجزات وحدها نفهم معنى الآية القرآنية :" و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه , و ما ننزّله إلاّ بقدر معلوم "  (الحجر : 20 ) , و الآية القائلة : " يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون " (النور:24). كما يتحقق أمامنا ما قاله السيد المسيح :" أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس يعطون عنها جواباً في يوم الدين " ( متى 12: 36). و يضيء في أذهاننا قوله تعالى : " أم يحسبون أنّا لا نسمع سرهم و نجواهم ، بلى و رسلنا لديهم يكتبون " ( الزخرف : 80).

 

الحقيقة الثالثة :

السببية الروحية و الجزاء العادل

إن الأحداث اليومية التي تقع , من مرض و موت و خسارة , أو شفاء و نجاة و ربح , و غير ذلك , يعللها معظم الناس بأسبابها  المادية المباشرة , و إن جهلوها فبالصدفة . فإن تدهورت سيارة , مثلاً , و قتل فيها فرد , و جرح ثان , و سلم آخر, عللوا اختلاف مصاير الركاب بالصدفة , أو بأسباب مادية محضة .

 و فضل المعجزات الداهشية أنها توضح أنها  مصاير البشر ونتائج أعمالهم تشرف عليها قوة روحيّة عادلة  حكيمة مدبرة , لا يفوتها شيء , مهما صغر و دق , و لا يعجزها أمر , مهما عظم وتعقد .

فالصدفة لا وجود لها , على الإطلاق . و السببية قانون كوني شامل ؛ لكن الإنسان لا يدرك منها سوى الوجه المحسوس , أو الذي يستطيع عقله وعيه , بينما تبقى العلة الحقيقية , و هي دائماً علّة روحية , محجوبة عنه . فالمرء , سواء مات في فراشه ميتة هنيئة , أم في حرب , أم إثر حادثة معينة , فتحديد أجله إنما يكون بموجب نواميس روحية , وفق استحقاقاته و درجة سيّالاته . فأن حان أجله , فاجأه الموت أينما كان , و لم يعصمه حصن , و لا بحر , و لا طبيب , في أي مكان. و إذا لم يحن أجله أنقذ مما لا ينقذ منه سواه .

و بغية الإيضاح الواقعي, سأعطي مثلين عجائبيين:

خلاصة المعجزة الأولى انه بينما كان الدكتور خبصا بصحبة الدكتور داهش وراء صيدلية حمادة في بيروت , إذا برجل الخوارق يرتعش بالروح و يخاطب رفيقه قائلاً :" أنظر الى هذا البائع الجوال" . و كان إزاءهما على بضعة امتار بائع أمام عربة عليها بطيخ . فأشار الدكتور داهش بيده , فإذا بطيخة ترتفع في الهواء , وتقع على الأرض محطمة . ثم أعاد الإشارة , فارتفعت بطيخة أخرى, و سقطت محطمة . فسأله الدكتور خبصا , متأثراً : " لكن لم ذلك ؟ فهذا البائع مسكين , و هذه الخسارة تكلفه غالياً ". فأجابه الروح العليّ بفم الدكتور داهش :" أجريت ذلك أمامك , لأعلمك أن العدالة تجري على جميع الكائنات , كبيرها و صغيرها  , بصورة طبيعية , من غير أن ينتبهوا لكيفية سيرها . فهذا البائع ربح أكثر مما يجب له في هذا النهار , و ربحه غير الحلال , و إن يكن ضئيلاً , خسره بتحطم البطيختين . و لو لم أرك ذلك بالمعجزة , لتتنبه , لكانت العربة سقطت في حفرة من غير انتباه صاحبها , و لتدحرجت البطيختان نفسهما من فوقها و تحطمتا ".

هذه المعجزة , و كثير من أمثالها , وضحت للداهشيين أن ما يزرعه الإنسان يحصده , و أن أعمال البشر جميعاً , وعلاقاتهم بعضهم ببعض , تترتب عليها نتائج من شأنها أن تقيم العدل الإلهيّ بينهم ." فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره , و من يعمل مثقال ذرة شراً يره"(سورة الزلزال:7- 8) و " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " ( سورة النساء:40)

أما المعجزة الثانية فتوضح كيف تتم المساعدات الروحية وفق استحقاق أصحابها .

في 3 آب 1964,  زار السيد شفيق المقدم الدكتور داهش بصحبة عقيلته السيدة رباب و شقيقتها .و كان في الجلسة آخرون .

فارتعش رجل المعجزات بالروح و قال لشفيق :" إن حادثاً فظيعاً سيقع لك و لأسرتك قريباً , و لكن لا تخف, فإني سأطلب مساعدة روحية من العناية الإلهية لرفع الخطر عنك ." و طلب الدكتور داهش الى الدكتور أبي سليمان  الذي كان حاضراً , أن يرسم الرسم الداهشي المقدس, و يضمنه دعاءً لله عز و جلّ , لرفع الخطر. ووقع الحاضرون جميعاً أسماءهم على الدعاء.

و بعد ثلاثة أيام من هذه الزيارة , و عند الساعة الحادية عشرة و النصف ليلاً , بينما كان السيد مقدم عائداً مع بعض أفراد أسرته من النبطية , (37) , في سيارته البويك , و هو يجري بسرعة كبيرة  تتراوح بين 120 و 140 كلم في الساعة , وصل الى منعطف خطر , فحاول أن يخفف السرعة , لكنه فوجئ , بعد نحو خمسة أمتار من المنعطف , بشاحنة كبيرة  واقفة في عرض الطريق الضيق , بسبب عطل طرأ عليها , و امامها بقعة موحلة , و كان الطريق مسدوداً بها, و على أحد جانبيه , صخور عالية , و في الجانب الآخر هاوية . وفقد شفيق السيطرة على سيارته , ووجد نفسه وجهاً لوجه , أمام موت رهيب. و زعق الجميع للمشهد الفظيع , و للمصير الرهيب المنتظر , و برق في رؤوسهم الدكتور داهش  ووعده بتخليصهم من الكارثة المتوقعة. و شاهدوا سيارتهم تصطدم بسرعة فائقة بالشاحنة , ويتقصف المعدن أمامهم , و يتحطم الزجاج , و يحسّ السائق بالصدمة في صدره ؛ كل ذلك في ثانية , و في ثانية أخرى , كانت السيارة و ركابها في الجانب الآخر أمام الشاحنة . لقد تمت المعجزة , و أنقذت الأسرة من الموت الشنيع , بإذن الله , و مساعدة رجل الله. فاخترقت السيارة بصورة روحية إعجازيّة الشاحنة , من غير أن تمسّ بخدش واحد , لا هي ولا ركابها . فحمد الجميع الله و مجّدوه , وازدادوا يقيناً و إيماناً بالدكتور داهش و بصحّة رسالته . (38)

فأية قدرة في العالم تستطيع فعل ذلك ؟ أن تجعل كتلة عظيمة من الحديد تخترق كتلة أخرى من غير خدش يصيبها ؟ أن تسحق المعدن على اللحم و العظم , فيعلك البشر و سيارتهم  في صدام رهيب , ثم ينجوا من الموت المحتوم , و لا جرح في أجسامهم ! إنها قدرة الله , وحده سبحانه , تتجلى على يدي عبده و مصطفاه  داهش العظيم .

هذه المعجزات و امثالها تجعلنا ندرك معنى قول السيد المسيح : " أليس عصفوران يباعان بفلس , و مع ذلك فواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم . و أنتم فشعر رؤوسكم جميعه محصى , فلا تخافوا , فإنكم أفضل من عصافير كثيرة" ( متى 10: 29 – 31) . كما تجعلنا نفقه معنى الآية الكريمة: "و لكل أمّة أجل , فإذا جاء أجلهم , لا يستأخرون ساعة , و لا يستقدمون " ( سورة الأعراف : 34) .

 

 

الحقيقة الرابعة :

التقمص

لقد أدرك حقيقة التقمص فلاسفة عديدون , منهم فيثاغورس وافلاطون , و آمن بها , اليوم , مفكرون كثيرون , بينهم نابغة لبنان , جبران خليل جبران . و كانت عقيدة التقمص قوام البوذيّة و الأديان الهندوسيّة عامة . و صرح بها القرآن الكريم , دونما تفصيل في قوله : " كيف تفكرون بالله , و كنتم أمواتاُ فأحياكم, ثم يميتكم , ثم يحييكم , ثم إليه ترجعون "  ( سورة البقرة : 28 ) , و في آيات كثيرة أخرى اعتمدتها عدة مذاهب إسلامية شيعية , أو درزية , لإعلان إيمانها بالتقمص. كما ألمع إليها السيد المسيح في مواقف كثيرة , منها قوله  لتلاميذ يوحنا المعمدان الذين سألوه عمن يكون معلمهم , فقال لهم : " إذا أردتم أن تقبلوا فهو إيليا المزمع أن يأتي " ( متى 11: 14) , و كذلك جوابه لتلاميذه , بعد ان سألوه لماذا تقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً ؟ فقال لهم : " إن إيليا قد أتى , و لكنهم لم يعرفوه , بل صنعوا به كل ما أرادوا... ففهم التلاميذ , حينئذ , أنه عنى بكلامه يوحنا المعمدان " ( متى 17 : 12 و 13 ) .

لكن الداهشيين إن آمنوا بما أنزل في الكتب المقدسة , فهم يدعمون إيمانهم بمعجزات محسوسة  تؤكد التقمص , بانتقال السيّالات الروحية من جسد الى آخر في الأرض , إنساناً كان أو حيوان او نبات أو جماداً, أو بانتقالها الى كوكب آخر علوي أو سفلي , حسب درجة إستحقاقها .

فعشرات هم الأشخاص النابهون , من مؤمنين بالداهشيّة أو غير مؤمنين , الذين شاهدوا الدكتور داهش عدّة شخصيّات , أي عدّة كائنات هي شبهه تماماً . وهي تجالسك وتحادثك ؛ لكنّها مع ذلك , ليست كائنات بشريّة , بل هي إمتدادات روحيّة لداهش تحيا  في كواكب علويّة متفرّقة من الكون , ودرجتها الروحيّة تفوق درجة البشر الى حدّ بعيد , ولذا فهي لا تخضع لنواميس الأرض , (41) .

وليست تجسّدات السيّالات غير الأرضيّة مقصورة على شخصيّات الدكتور داهش , فقد حصلت تجسّدات أخرى عديدة أمام شهود كثيرين , ذكرت منها في القسم الثاني , من هذا الكتاب , تجسّد ندى (42) , وأكتفي , هنا , بذكر أحدها "

في مطلع آب 1942 , كان الدكتور داهش برفقة الأديب يوسف الحاج , والشاعر حليم دمّوس , في منزل الأخير في رأس بيروت . وفي الساعة العاشرة ليلاً , إنتصب رجل المعجزات في الغرفة المضاءة يحدّق من نافذتها الى السماء المتألقة بالنجوم . وما هي إلاّ لحظات , حتى تراءى أمام الثلاثة شبه ضبابة أخذت تقترب وتتكاثف تدريجيّاً , الى أن إنجلت أخيراً عن كائن أشبه بالبشر , إنّما أحمر الوجه , نافذ النظرات , متألّق المحيّا ؛ وأخذ يحدّثهم بسرعة عجيبة , ولغة غريبة لم يفهموا منها شيئاً . فتقّم الدكتور داهش , ورسم الرمز الداهشيّ المقدّس على فمه , فطفق يتكلّم العربيّة .

ومما قال : " إنّه أحد سكان عالم من العوالم التي لا تدركها الأبصار البشريّة , وسبق أن كان أحد أبناء الأرض , منذ بضعة آلاف من السنين . وما أن مات , مخلّفاً جسده طعمة للديدان , حتى وجد نفسه في عالم مجيد بهيّ " . وبعد أن حدّثهم بأمور خطيرة كثيرة , أخذ يتلاشى , أمامهم تدريجيّاً , حتى غيّبه المجهول .

بهذه المعجزات التجسّديّة أصبحنا نفهم ما عناه السيّد المسيح : " إن في بيت أبي منازل كثيرة " ( يوحنا 14 : 2 ) , وما قصده بولس الرسول : " ومن الأجساد أجساد سماويّة وأجساد أرضيّة . ولكن مجد السماويّات نوع , ومجد الأرضيّات نوع آخر , ومجد الشمس نوع , ومجد القمر نوع آخر , ومجد النجوم نوع آخر ؛ لأنّ نجماً يمتاز عن نجم في المجد " ( كورنثوس الأولى 15 : 40 – 41 ) . كذلك إتّضح معنى الآية الكريمة : " فلا  أقسم بمواقع النجوم , وإنّه لقسم لو تعلمون لعظيم " ( الواقعة : 75 و 76 ) .

فالحياة تعمّ الكون بأسره , ذلك بأن الحياة هي المبرّر الوحيد لأي وجود . وما النعيم والجحيم سوى الكواكب والنجوم كلّها مرئيّها وغير مرئيّها .

وقد حان الوقت لندرك بفضل الداهشيّة , أنّ الإنسان ليس مقياس الحياة , كما كان يظن ّ , ولا حتى مقياس مظاهرها العاقلة , ولا هو ذروة تطوّرها , إنّما الإنسان كائن بسيط ضعيف , ومظهر متخلّف نسبيّاً من مظاهر الحياة الكونيّة التي لا حصر لها . وعليه أن يعرف حدّه وقيمته في سلّم الحضارات الكونيّة التي لا يستطيع أن يرقى الى عظيم مجدها ومعرفتها وقدرتها ونقاوتها وسعادتها , حتى بالخيال . فإذا ما أدرك أن ميوله وأعماله في حياته السابقة هي التي أوصلته الى هذه المرتبة الذريّة بين الكائنات السامية , توجّب عليه أن يسعى الى ترقية ذاته في المعرفة الحقيقيّة والروحانيّة ؛ لأنّ أمجاد العوالم العلويّة لا تنال بصاروخ ولا بسفينة فضائيّة , لكن بإرتقاء روحيّ داخلي يؤهّل الإنسان بعد موته , للتجسّد في الكوكب العلويّ الذي يستحقّ . وإلاّ فأنّه إذا سفّل نفسه , وتشبّث بالدنيويّات , يضع ذاته في جاذبيّة العوالم السفليّة ,فتتجسّد سيّالاته , بعد موته في كوكب يعظم فيه الجهل , ويتفاقم الشرّ , ويشتدّ الشقاء والعذاب .

وإنّنا ما كنّا لنبصر شخصيّات الدكتور داهش والتجسّدات الأخرى , لو لم يأتي تجسّدها ضمن مقاييس الأرض . وهذا ما يفسّر عجزنا عن رؤية الروح كما هي , أو رؤية الملائكة وسائر الكائنات العلويّة على حقيقتهم .

فالعلم نفسه أكّد أنّ الإنسان محدود إدراكه الحسّي بشبكة من الحواس له حدود عليا وحدود دنيا لا يمكنه تجاوزها . فالعين لا تبصر من الموجودات إلاّ التي تتراوح أطوال مويجاتها الضوئيّة بي 7600 و4000 أنكستروم في الثانية , والتي تتحرّك بسرعة أدنى كثيراً من سرعة النور التي تبلغ 300,000  كيلومتر في الثانية . والأذن البشريّة لا تسمع من الأصوات إلاّ التي تتراوح بين 15 ونحو 20,000 ذبذبة في الثانية .

ولذا فالروح تبصرنا وتسمعنا , ونحن لا نبصرها ولا نسمعها .

 

   و بعد , فمن هو داهش؟

إننا لا نؤمن به إلهاً, بل نؤمن بأنه هاد من هداة الله طبقاً للآية القرآنية الكريمة :" و لكل قوم هاد " (سورة الرعد : 7 ) . و نحن قوم تبلبلت أفكارنا , و تجزّأت أدياننا و تناحرت مذاهبنا و شاع الكفر فينا , و تغلب النفاق على الإيمان , فتدخلت رحمة الله , و أرسلت إلينا هادياً , يهدينا الى سبيل يخرجنا من حيرتنا و اضطرابنا و مآسينا , ويعيد الينا الثقة بالمسيح و الأنبياء والإيمان برب العالمين .

و من الهداة من وهبهم الله عقلاً نيراً و نفساً نقية , كسقراط و غاندي و الإمام علي , و منهم من أيدهم تعالى  بروح من لدنه , فصنعوا المعجزات  بقدرة العليّ , تصديقاً لدعوتهم الروحية . والروح , كما قال السيد المسيح : " يهب حيث يشاء" ( يوحنا 3: 8 ) , و قد شاء أن يهب في لبنان , أفنرفضه  فنكون من الأغبياء الخاسرين ! والخالق سبحانه هو الذي يختار من يريد من الناس لإحلال روحه فيه , تصديقاً لقوله :" رفيع الدرجات , ذو العرش , يلقي الروح من أمره  على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاقي" (غافر:15) , و قد شاء أن يلقي الروح على رجل من أرض الأنبياء هو داهش. أفنناقش الله و نرفض مشيئته ؟

لم يبارك التاريخ مضطهدي سقراط و بوذا و المسيح و الرسول العربي و غاندي , بل لعنهم , و خلد اولئك الهداة و الرسل والمصلحين , و خلّد رسالاتهم . أما المؤسسات و التكتّلات و الدول كلها التي قاومتها , فقد قضى التاريخ عليها بالفناء و دمغها باللعنة الأبديّة .

ذلك بأن الحضارات لا تقوى على البقاء الاّ بغذاء القيم الروحية. و كل شعب تخلى  عنها مصيره الإنحلال و التبدد , مهما تعاظم وشمخت مدنيته , و مهما صال و جال الباطل فيه , فالباطل دولته قصيرة , و التاريخ شاهد على ذلك . و القيم الروحية لا سياج لها إلاّ الرسالات السماويّة و الدعوات الإنسانية .

حتى الحركات الإجتماعيّة الثورية تستمد مقومات إصلاحها من تلك القيم . فالعدالة و الأخوة و التعاون ورفع الظلم و الإستثمار التي تنادي بها , تجد أصولها في الرسالات الروحيّة الصحيحة . و القيمة الحقيقيّة لكل حركة إصلاحيّة تكون بنسبة تطبيقها تطبيقاً عمليّاً تلك القيم الروحيّة .

و إذا كان المتاجرون بالقدسيات قد أفرغوا الأديان من معناها الروحي  القويم , كوجود حي سام  فاعل في الإنسان فرداً و جماعة ,ليجعلوها نظريات و غيبيات و أدوات لكسب المغانم  و بسط النفوذ , فإن الداهشيّة , بمشيئته تعالى , ظهرت لتدعو الى إعادة الأديان لنقائها الأصلي و تأثيرها الخير الحيّ ووحدتها الروحيّة , فتبني نفوس الناس فرداً فرداً, مواطنين شرفاء أنقياء السريرة , أبطالاً أحرارا ًمتعاونين متحابين  عادلين , أناساً تسامى فيهم الإنسان , وتصاغرت البهيمة .

فالأنظمة مهما كانت صالحة لا تؤدي وحدها الى أي إصلاح حقيقي إذا كان الإنسان فاسداً . فالإنسان وجد أولاً , و النظام من أجله وجد . و هل يمكن  بناء صرح قويّ , مهما كانت عبقرية مهندسه, إذا كانت حجارته سريعة التفتت ؟ و ماذا ننتفع بالكأس , و إن تكن ذهباً ما دام الماء فيها سمّاً زعافاً , و نحن عطاش ؟ و هل تتبدل قيمة اللوحة التافهة إذا ما أحيطت بأطار ثمين ؟ فكل إصلاح جذريّ , لا يبلغ هدفه ما لم يصلح الفرد نفسه .

ألا فلنرفع الغشاوة عن بصائرنا , و لنع أننا لسنا وحدنا في الكون , فنكف عن الإستكبار و التأله . و لندرك أن الإرتقاء الصحيح يقضي بأن نتخذ لنا مطلقاً صحيحاً فنجعل الله كمالنا و غايتنا الأخيرة , لتستقيم الطريق  التي تبلغنا السعادة العظمى . الا فلنفهم أن اضطراباتنا و ضعفنا و تخلفنا و مشكلاتنا و حيرتنا و شقاءنا سببها كلها نحن , و نحن مختارون و مسؤولون . و ما لم نغير أنفسنا , فلن تغير أوضاعنا . أما قال العليّ : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( سورة الرعد : 11) ؟

*              *                *