info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى الخوارق الداهشيَّة في عشرين عاماً " الجزء الثالث "

 

مقدمة

هذا الكتاب هو الجزء الثالث والأخير في سفر يؤرخ للخوارق التي اجترحها الدكتـور داهـش أمـام زائريـه من مختلـف فئات المجتمع وطبقاته، وللجلسات الروحيـة التـي عقـدهـا لـهـم، سـحابة عشـرين عامـا (١٩٦٠-١٩٨٠)، والتي كان المؤلف شـاهدا لها، مؤمنا برفعة شـأنها وأهدافها. ويعد تأريخه لها بمثابة استكمال للتأريخ الذي اضطلع به الشـاعر حليم دموس، «مؤرخ الرسالة الداهشية»، ما بين عامي ١٩٤٢ و١٩٥٧. وكان كل منهما قد كُلف روحيا، في حينه، القيام بالمهمة، فأدّاها بأمانة تامة، وبروح عالية استشعرت عظمة التراث الروحي الذي انطوت عليه تلك الخوارق والجلسات، فحفظت وقائعها في القراطيس حتى لا يعفي عليها غبار الزمن، ولكي تبقى منارة هداية تضيء السبل أمام الأجيال الآتية.

لم تكن الخوارق الداهشـيـة التـي حظيت بنصيب من التدوين، في مجملها، سـوى غيـض من فيض مـا اجترحه الدكتـور داهش من خـوارق في حياتـه. ويتبين من وقائع الكتاب أنها كانت تتم ببساطة شـديدة، سـواء داخل الجلسات الروحية أو خارجهـا، وفـي أي مكان أو زمـان. كـمـا أنـهـا كانت على قـدر كبير مـن التنوع، الأمـر الـذي يثبت قدرة الدكتـور داهش على اجتراح المزيد مـن الخوارق الجديدة فـي نـوعهـا، وعلى إعادة اجتـراح أية خارقة، بالطريقـة ذاتها أو بطرق مختلفة، أمام شهودها. ومع ذلك، فإنه لم ينسـب تلك القدرة لنفسه قط؛ إنّما كان ينسبها إلى قوة منحته إياها الإرادة الإلهية لغاية سامية تبتغي تحقيقها في هذا العصر.

فلقـد عهدت إليه السـماء برسـالة إلهية شـاءتها أن تكون سـفينة إنقـاذ أخيرة لعالمنا الغارق في لجج التيه والضلالة، وزودته بقوة سماوية هائلة يستطيع بواسطتها اجتـراح العجائب العظمى، تثبيتا لرسالته. وقد صدع الدكتور داهش بأمر السماء، واحتضـن الأمانة الغالية التي وضعتها في عنقه، ونذر لها العمر كلـه، ورهن قلمه وفكره لنشـر مبادئها، وجابه العقبات الكأداء التي اعترضت سبيلها، وقاوم المظالم الرهيبـة التـي أنزلت به بغية القضاء عليها، وبذل ماله ودمه وراحته من أجل ترسيخ دعائمها وتحقيق أهدافها.

أمام تلك الخوارق الداهشية، كان من الطبيعي أن يبحث المرء عن سر القوة الكامنة خلفهـا، وعن الغايـة المرتجاة منها، في عصر بلغ الشـأو الأعلى من العلم والمعرفة والإختراعات. السيد توفيق عسراوي، اللبناني الأصـل الذي كان مقيما فـي القـدس في بدايات الربع الثاني مـن القرن الماضي، والذي يعـد المؤمن الأول بالرسالة الداهشية في العالم، كان من أوائل الباحثين عن ذلك السـر وتلك الغاية. ففي عام ١٩٣٠، جاء الدكتور داهش إلى فلسطين زائرا، وأمضى فيها سنوات عدة، متنقلا بين بيت لحم والقـدس والمدن الأخرى، مجترحا الخوارق أمام الآلاف من أبنائها، ما أتاح لتوفيق التعرف إليه عن قرب، ومشاهدة ظاهراته الروحية. وقد أثارت تلـك الظاهرات دهشـته وإعجابه، لكنّه عجز عن اكتناه لغزهـا وتبين أهدافها إلى أن جاءه العلم اليقين من العالم الروحي نفسه، مصدر القوة الخارقة. وقد أشار الشاعر حليم دموس إلى ذلك في معرض تأريخه لحياة الدكتور داهش وعائلته وللداهشية، فقال: «إنّ تلك الآيات العجيبة حيرت عقل توفيق عسراوي، فلج به الشوق لمعرفة سـرها. ومنذ ذلك الحين، أعطيت لـه النّعمة من الله بأن يكون أول من تكشفت له أسـرار تلك الظاهرات، إذ عقدت له أول جلسـة روحية داهشية، وذلك تحت سماء القـدس، وفي تلك الجلسـة احتلت روح علويـة الدكتور داهـش، وخاطبت توفيق بلسانه، قائلـة: «إنّ هذه الآيات التي شاهدتها إنّما هي ظاهـرات روحية. والدكتور داهش هو صاحب رسالة سماوية، ورسالته ستدعم بظاهرات وخوارق لم يشهدالتاريخ مثلها منذ التكوين. والسبب في ذلك أن العالم على انتهاء، وسائر إلى الفناء، كما تنبأت بذلك جميع الكتب المقدسة.» ثم تابعت الروح خطابها إليه بالقول «إنّ هذه الرسالة، بظاهراتها الخارقة وتعاليمها الواضحة، ستكون آخر إنذار لبني البشر؛ كما إنها ستكون بشيرا لمن ينتظرون يوم الرب. أما الغاية من الظاهرات، فهي إثبات حقيقـة وجود الله، وخلود الروح، ووجود عالـم روحي، والتأكيد على مبدإ الثواب والعقاب، وعلى أن الحياة لا تنتهي بالموت». ويضيـف حـلـيـم قائلاً إنه عقدت «جلسات روحية أخرى لتوفيق تكشفت له فيهـا حقائق باهرة غيرت مجرى حياته، إذ عـزف بعدها عن بهارج الحياة وزخارف الدنيـا ، وأخذ يهتم عمليا بما يقربه من الله عز وجل، ويمنحه يقظة روحية بهجة بعد الحياة الدنيا؛ وانخرط مذذاك في سلك الرسالة الداهشية.»

والجدير بالذكر أن الحقائق الروحية التي كشف النقاب عنها للمؤمن الأول كانت في أساس مبادئ الرسالة الداهشية؛ وقد توالى الإعلان عنها، بشكل أوسع وأشمل، سحابة نصف قرن من الزمن. فمنها ما كان يتنزل في الرسائل الإرشادية التـي تهبط من عالم الـروح بطريقة إعجازية، ومنها ما كانت الأرواح العلوية التي تحتل الدكتور داهش تخاطب المؤلف أو سواه في شأنها؛ وهو ما يظهر بوضوح في الكتاب. ومنها أيضا ما كان الدكتور داهش يكتبه بنفسـه في شكل شروح روحية، أو يأتـي على ذكره في أحاديثه، فيبادر بعض مجالسـيه إلى تدوينه. على أن معظمها قد ورد، بشكل مسهب، في بعض مؤلفاته الأدبية، الوجدانية منها والدينية والقصصية التي اتسمت بالطابع الفلسفي. أمـا الفنـاء الـذي أبلغ المؤمـن الأول بأمـره، فقد تكـرر التحذير مـن اقتراب شبحه في رسائل روحية عدة، وفي أحاديث الدكتور داهش وبعـض كتبه الأدبية. وقد عبر عنه الروح العلوي في إحدى الرسائل بالقول: «لقد اقتربت الساعة، ساعة الـهـول الأكبر والفـزع المدمر والهلع المزمجر برهبوته المزلـزل، والألف عام لدى اللـه لحظة». وأضاف قائلاً إن الآثام والرذائل هي السبب في وقوعه. وقلما خلت رسالة روحية من الإشارة إلى تعاظم الفساد والشرور والمطامع والفجور والكفر والإلحاد وسواها من المعاصي والمخازي في دنيانا، وإلى أنها السبب في «إيفاد العناية الإلهيـة رسـولها الأمين إلى الأرض لكـي لا يهلك كل من أوصل سيالاته لتفهم الحقيقة السرمدية».

إزاء هذا الواقع المظلم، انطلق الدكتور داهش يبلغ رسالته إلى الدنيا، شاهرا سيف نقده اللاذع في وجه تلك الآفات، محـذرا، منذرا من مخاطرها. وكان يحيط النـاس بمحبته ورعايتـه، ويجري لهم الخوارق إثر الخـوارق، بهدف تعزيز الإيمان بالله في نفوسهم، وبالروح والعالم الروحي الخالد، وبالفضيلة والمثل العليا، ومن أجل بث الوعي فيهم بمسؤولية الإنسان عن أعماله. وكان يمدهم بالمعرفة الروحية السامية، إيمانا منه بقدرتها على إحداث تغيير في الفكر الإنساني والسلوك البشري، مـا قد يحـوّل المصير المظلم إلى مصير نير مشـرق. وقد اقتضى ذلـك منه تعريفهم بأسرار النفس والروح، والحياة والموت، والإرتقاء والسقوط الروحي، والتقمص، والعـوالـم، والنعيـم والجحيـم، والأنبيـاء والأديـان، والعدالة الإلهية، وسـواها من الحقائق الخالدة، بأسلوب شيق، مدعما كلامه بالمعجزات. ولم تكن الأرواح العلويـة فـي منأى عنه، بـل كانت تواكبه في مسيرته، وتُلهمه، وتمده بالمساعدات الروحيـة، وتـؤازرة في الهدايـة والتنوير، وكأن العالـم الروحي كان منخرطا، من خلاله، في عملية الإنقاذ الإلهي. وقد بدا ذلك جليا في معظم فصول الكتاب.

في ٢٣ آذار ١٩٤٢، أُعلنت الرسالة الداهشية في بيروت، فاعتنقها نخبة من أهل الفكر والأدب والعلم والفن في لبنان، وكتبت عنها الصحافة اللبنانية والعربية. وفي ٢٨ آب ١٩٤٤، شـنّت السلطات اللبنانية حملة اضطهـاد ظالمة ضد الدكتور داهش، بأمر مباشر من رئيس الجمهورية اللبنانية، بشاره الخوري (١٩٤٣-١٩٥٢)، بهـدف القضـاء على رسالته، فسُـجن وعُذّب، وجُـرد من جنسيته اللبنانية، ونُفي خـارج البلاد، ثم شُـرّد في أرض منفاه، من غير أن يُقـدّم للمحاكمة، لكنه تمكن من العودة سـرا إلى بيروت، فشن حربا قلمية على الرئيس الباغية ومؤازريه في الجريمة استمرت ثماني سنوات حافلة بالأهوال، وأسهمت في إسقاط عهدهم البغيض.

وقد أعيدت جنسيته وحرياته إليه مع بداية العهد الجديد. وهـكـذا سـجل صاحب الخوارق وسيد الرسالة للتاريخ أنه لم ينكسـر أمام المظالم والآلام، بل صمد وقاوم وانتصر، وأنه لم يترك مشعل الهداية الساطع من يمينـه، بـل حمله على جراحاته، وبقي وفيا لـه حتّى الرمق الأخير مـن حياته. ولقد أعلن، مذذاك، عمّا سيكون عليه مستقبل رسالته في الأرض، مستبقا بذلك حكم الزمـن فيه، كأن علمه به قد هبط عليه من قلب الغيب. وقد استودعه تلميذه الوفي، الشاعر حليم دموس، عبر رسالة بعث بها إليه لتكون أمانة في يده، وذكرى في ضمير الأجيال القادمة. ههنا بعض قبسات من تلك الرسالة، نتركها بين يدي هذا الكتاب، بانتظار الفجر الموعود، الآتي من وراء الأفق البعيد:

«... ثق، أيها الأخ العزيز، بأن هذا المبدأ سيُنشر، وسيذاع أمره في كافة أنحاء المعمـور، وذلـك مع الوقت. وسيعتنقه الآلاف بينمـا أكون قد ثويـت في حفرتي، وانطلقت من رحاب هذه الدنيا الفانية. نعم، إنّ المبدأ الذي حُوربتُ من أجله سيعم في أنحاء المعمور قاطبة، شاءت البشرية التاعسة أم أبت. هذا ما أؤكده تأكيدا جازما رغمـا عـن ظـهـوره، الآن، بمظهر المستحيل، بعدما شـاهدتُم لؤم البشـر وغدرهم وخياناتهـم وعـدم إيمانهـم. هـي الحقيقـة، بل هي نُبـوءة تكلمت بها، وستتحقق بحذافيرها في مستقبل الأيام، إن شاء الله.»

ماجد مهدي
مونتريال، في ٢٨/ ٨/ ٢٠١٤