info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "أناشيدٌ حَزينَة"

لذكرى

 وَالدَة مؤسّس الداهشيَّة

 

 

أناشيدٌ حَزينَة

جَمَعهُ

 ماجد مهدي الداهِشيّ

 

عَدَالةُ المَوْت

أَيُّها الموتُ : أَنتَ عَادلٌ وأنتَ رحمةٌ لأَبناء الحَياة

فلولاكَ ... لمَا عرفنا مَعنىً للراحَة السّرمديَّة

ولولاك ... لما تذوَّقنا نعمةَ الغبطَة الأَبديَّة

ولولاك ... لما أطمأنّت قلُوبُنَا الحائِرة في هَذا العالم الفاني

ولولاك ... لما اكتشفنَا أَسرَار ذلك العَالم الثّاني

ولولاك ... لما رأَت عيونُنا وجهَ الحقّ ربّ الحَياة والممات

                                                   داهش

                                           من كتاب بُرُوقٌ وَرُعُود

  

 

 

 والِـدَةُ داهِش

 بقلم أنطون مرعب الداهِشي

 

هي سيّدةٌ مثاليَّة بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة . وهي ذات فضيلة وتقوى ، فكلُّ من عرفها يتأكَّد له أَنَّ الكتاب المقدَّس لم يكن ليُفارق يدها . وبتكرار السنين أصبحَتْ مُلِمَّةً بكلّ آيةٍ فيه ، بعهدَيْه القديم والجديد ، إذْ أصبحَتْ حجَّّةً ذات برهان فوري . فما تكاد تسألها عن آيةٍ  أو واقعةٍ أو عظةٍ أو حربٍ أو حكمةٍ تودُّ أن تعرف مكانها في الكتاب المقدَّس ، حتى تبادرك فوراً وتُعلمك عن مكانها بالصفحة والعدد .

إنَّ هذه السيّدة المقتدرة تُوفي قرينها في 25 كانون الأوّل – عام 1920، وكان طفلها داهش لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره ، فضلاً عن شقيقاته الأربع .

وقد شقيت والدتُهم ، وواصَلَتْ كفاحها في الحياة بقوّة وصلابة ، وعنفوان وجبروت ، وأخيراً عُيِّنَتْ في مدرسة البنات الأمريكيّة بمدينة طرابلس (لبنان).

وعندما شبَّ نجلُها داهش عن الطوق كان سرورها به عظيماً ، وفرحُها لا يُعادله فرح .

ودارت الأيامُ دورتها ...

وإذا بعام 1942 تُدويّ أبواقه العنيفة في مدينة بيروت ، وفي لبنان بأسره ، مذيعةً أنباءَ الخوارق التي يجترحها الدكتور داهش . فلم يبقَ منزل أو شارع أو متجر أو نادٍ أو حقل أو غابٌ لم يسمَعْ بالمعجزات التي تتمّ على يَدَيْ هذا الشابّ ، وهو لا يزال بمقتبل العمر .

وضجَّت المدُنُ والقُرى ، وهرعَت الجماهير إلى منزل هذا الفتى المعجز ، وشاهدوا بأُمّ أَعينهم خوارق مُزلزلة ، فخرجوا مذهولين مأخوذين ، وراحوا يُذيعون أنباءَ ما شاهدوه من مستحيلات خرقت النواميس الطبيعيّة .

واعتنق الكثيرون الداهشية بعدما لمسوا ما لمسوه ، وشاهدوا ما شاهدوه . أو لم تُؤْمنْ ؟ بلى ، لكنْ ليطمئنَّ قلبي . وقد اطمأنَّتْ قلوبُهم فاعتنقوا الداهشية بإيمانٍ وطيد وعزمٍ لا يتزعزع مهما عصفت الريح الزعزع .

وممن اعتنقوا الداهشيَّة السيّد جورج حداد عديل رئيس الجمهوريّة الباغية بشارة ألخوري الطاغية .

فقد اعتنق جورج حداد الداهشيّة ، وشاركته بالعقيدة زوجتهُ السيدة ماري حداد الأديبة والفنّانة المشهورة ، وكذلك كريماتها : ماجدا ، آندره ، وزينا .

وأَوَّل من اعتنق الداهشيّة الصحافي المعروف يوسف الحاج ، والشاعر الغرّيد حليم دمّوس والنطاسي ألاختصاصي جورج خبصا ، والدكتور فريد أبو سليمان ، وجوزف حجّار قرين آندره ابنة ماري حدّاد ، وغيرهم كثيرون ممّن آمنوا بالداهشيّة وتمسكوا بها تمسُّك الغريق بقشَّة النجاة .

ومنذ الدقيقة التي اعتنقت فيها ماري حدّاد الداهشيّة استاءَ شقيقها المتكبّر ميشال شيحا ، كما استاءَ هنري فرعون – وميشال شيحا قرين شقيقة هنري فرعون . كما ذُهِلَتْ لور زوجة بشارة الخوري وهي شقيقة ماري حدّاد التي عند اعتناقها وعائلتها الداهشيّة ، لم تكن شقيقتها لور قد تسنّمت الرئاسة بعد .

وفي خلال عام 1943 جلس الباغية بشارة الخوري على كرسيّ الحكم بلبنان . إذ أصبح رئيساً للجمهوريّة . ومنذ الدقيقة التي اعتلى فيها كرسيّ الرئاسة ابتدأ اضطهاد داهش . وقد ظنَّ بشارة الخوري أنه من السهل إلقاء القبض عليه ؛ وأحبّ أن يُسوّد صحيفته تجاه الرأي العام ، فأَرسل رجال التحريّ يُرابطون حول منزل داهش ، يُحصون أنفاس زوّاره ، ويملأون تقاريرهم بأسمائهم وساعات ولوجهم منزل مؤسّس الداهشيّة .

ومضت تسعة شهور طويلة بأيّامها وأسابيعها ، ولم تستطع زبانيّةُ الحاكم الظالم أن تدين داهشاً بأيّة بيّنة تُمكّنها من إِلقاء القبض عليه ، إذْ فشلوا وكان فشلهُم ذريعاً .

حينذاك شمَّر بشارة الخوري عن زنديه وخَرق قوانين البلاد ، وهشَّمَ موادّ الدستور القائل إِنَّ حريّة العقيدة مصونة ، فالإنسان حرٌّ بعقيدته تمام الحريّة .

قلتُ إِنَّ المجرم بشارة هشَّم دستور البلاد إذْ أرسَلَ شرذمة من عصابة أوغادٍ مسلَّحين بالمسدَّسات والهراوات والخناجر ، وقصدهم اغتيال داهش . وللمرَّة الثانية أَنقذَتْه عينُ العناية ، ومرَّغَتْ أُنوفَهم بالرَّغام .

وحرَّر محمّد علي فيَّاض تقريراً كاذباً أُمْلِيَ عليه ، واتَّهم فيه داهشاً بمحاولة اغتيال شرذمة المجرمين المُرسَلة لاغتياله . يا للهوان ! ويا للشَّرَف المسفوح على أعتاب الرئاسة ! كوميسير شرطة يُحرّر تقريراً كاذباً أُمْلِيَ عليه ، سافحاً شرفه ، مُسخّراً ضميره ، بائعاً ذمّته للشيطان الرجيم ! هذا هو الواقع ، وهذا ما حدث بتاريخ 28 آب 1944 ، ذلك اليوم المشؤوم المشحون بالأحقاد القَذِرة ، ذلك اليوم الذي لا ولن ينساه أيُّ داهشيّ أو داهشيّة ، ولذلك اليوم حساب حتى لو تأخَّر إلى يوم الحساب .

وأُوقِفَ داهش ، وأُطْلِقَ سراح المجرمين برعاية سيّدهم زعيم السفّاحين .

وطُرِبَ بشارة الخوري ، وهلَّلَ ميشال شيحا ، وصفَّقَ هنري فرعون صاحب اللطخة الخنزيريّة المتربّعة على خدّه منذ ولادته والتي سترافقهُ إلى لحْدِه . ورقَصَتْ لور وقد أسكَرتها خمرةُ الانتصار المدنَّسَة ، انتصار الرذيلة على الفضيلة . ولكن ...

ولكن كانت الأهوال تنتظرهم ، وكانت الزلازل المُزَلْزلات تتربَّص بهم وهي تَعدُّ عليهم أنفاسهم .

وجُرِّد داهش من جنسيّته قسراً واغتصاباً ، وأُبعد عن البلاد ، وظنّ السفّاح بشارة الخوري ، والمُنافِقة لور أنّهما قد انتهَيا من أمر مُؤَسّس الداهشيّة ، لكنَّ ظنَّهما خاب ورجاءَهما ذاب ، إذ سرعان ما صدَرَت سلسلة من الكُتُبِ السوداء الرهيبة ، طافحةً بجرائم بشارة ومآثمه ، وملأى بأخبار اللوطيّ هنري فرعون ، مُشْبَّعةً بأسرار لور الجنسيّة القَذِرة . وجميع هذه الكُتُب ممهورة بتوقيع ماري حدّاد الداهشيّة .

وماري شقيقة لور ، شقيقتها سابقاً ، أي قبل ارتكاب الجريمة . أماّ الآن فقد أصبحت غريبة عن ماري حدّاد ولا تمتُّ لها بأيّة صلة . وتبعَ الكُتُب السوداء إلقاء القبض على ماري حدّاد ووضعها بالسجن عاماً كاملاً ، كما زُجَّ الشاعر حليم دمّوس في غياهب السجون أيضاً ، دون أن تكون عليه أيّة بيّنة إطلاقاً . ولكنه الظلم المرعب يرتكبه سيّد المجرمين بشارة الخوري سفّاح لبنان الباغية على الحقّ ومهشّم الدستور بارتكابه الإجراميّ الهائل .

وقد ندم هذا الأقنوم الثلاثيّ المجرم ، ندموا على تدخّلهم في مسألة داهِش ندماً عظيماً لم يُجْدِهم نفعاً ، إذ اُفتُضِحَتْ جرائمهم ، وكُشِفَتْ أستار فضيلتهم المزعومة ، فعرف الجميع أَدقَّ أسرارهم النتنة من الكُتُب السوداء التي كانت تُمطر البلاد من أقصاها لأدناها في كلّ يوم ، دون أن تستطيع دوائر التحريّ معرفة الموزّعين أو الطابعين لهذه الدواهي المرعبة .

وراحت ألسنةُ الخلق تُمطرهم بسهامٍ حادَّة ، وتسلقهم مندِّدة بجرائمهم التي تُؤيّدها البراهين والوثائق المطبوعة بالزنكوغراف .

وأخيراً ، طفَحَ الكَيْل ولم يعدْ في قوس الصبر منزع ، والتهبَت الثورة ، ثورة الشعب على المجرم بشارة المرتكب للجرائم المفضوحة .

وبين غمضة عينٍ وانتباهها حُطِّم كرسيّ حكمه على رأسه ، وطُرد من منصبه . وكان ، إذ ذاك ، مجنوناً إذْ سلَّطَ عليه داهِش سيّالاً روحيّاً أفقده عقله ، فأصبح بهلول لبنان وأضحوكته الأبديَّة .

وقد فقد بشارة عقله ، وطلّقَ رشاده ، وأضاع تمييزه بعدما جرَّد بشارة داهِشاً من جنسيّته بشهرٍ واحد . إذ استيقظ صباحاً وهو يرفع عقيرته بالغناء وقد أمسك بجَرْدَل الماء يقرعه ظانَّاً أنَّه الطبل ، فهرعَتْ لور لترى ما الخبر ، وإذا بها ترى قرينها وهو عاري الثياب ، وقد تأبَّط جردل الماء وهو يُردّد نشيد " يا ريتني حصان" لعمر الزعنّي . ثم اعتلى السطل ظانّاً إيّاه فرساً أصيلة ، وراح يسوطها بحذائه يستحثُّها على الإسراع .

وإذْ ذاك انفجرت لور السفّاحة بالبكاء ، وعرفت أنَّ زوجها قد جوزي على اعتدائه على حريّة داهِش .

 

                             

 ولكن سبق السيف العذل

فما فات مات ، وهيهاتِ أن يعود مثلما كان هيهات

وتوارى المجرم بشارة الباغية في منزله بالكسليك ، نادباً أَيَّامه ، نادماً على ما فاته . وكان عقله قد تضعضع ، فبرزَتْ عيناه من محجريهما ، وجحظتا ، ممّا جعل أقرب معارفه يستعيذون بالشيطان عند مشاهدته .

لقد كان منظره مخيفاً جدّاً ، وقد قال أحد أصدقائه المقرّبين مُقْسِماً بالله ، ومُردّداً : إذا تجسَّد الشيطان لما كان منظره أشدّ خوفاً من منظر بشارة الخوري المرعب . وتأكيداً لشدّة انزعاج بشارة الخوري وزوجته وخوفهما ممّا أصابهما بعد الاعتداء على الدكتور داهش ، وسلسلة الرعب والمتاعب التي أحاقتْ بهما سأنشر صورة زنكوغرافيّة عن رسالة لور لأختها ماري حدّاد تطلب فيها الصلح معها لتتخلّص مع قرينها من الأهوال التي انصبَّتْ على رأسيهما انصباب الحُمَم . أنظر رسالة الأفعوانة لور في الصفحة 202 من هذا الكتاب .

وقد ردَّت السيدة ماري حدّاد عليها برسالةٍ رأيتُ أَنْ أنشرها ليعرف كلُّ لبناني في أيّ جحيم كانت تحيا هذه الحيَّة الرقطاء لور السفّاحة ، وقرينة السفّاح الباغية بشارة . لعنه الله .

انظر رسالة الأخت ماري حدّاد إلى لور في الصفحة 206 من هذا الكتاب .

والخلاصة أنَّ بشارة الخوري بعهده البغيض سَخَّر وسائل الدولة الإِذاعيّة بأكملها ضدّ داهِش . فكانت الصحف تنشر سلسلة من الأخبار الكاذبة عن مُؤَسّس الداهشيّة ، والراديو يدأَبُ ، ليل نَهار ، على بثّ السموم حوله ، والمدارس الاكليريكيَّة تُلقّنُ الطلبة والطالبات الصغار أشنع الأكاذيب ، ملفّقةً أحطَّ التُّهَمْ عليه ، لتُبعد تأثيره عنهم ، فداهِش هو الحربةُ التي وجَدَتْ مقتلاً من رجال الدين ، فاضحةً أعمالهم ، مندّدةً بتصرفاتهم ، مهاجمةً أكاذيبهم ، معلنةً رجاساتهم ، مبرهنةً تدجيلاتهم للرأي العامّ .

وقد هالهم الأمر فتكأكأوا عليه ، وتكالبوا ضدّه بجميع وسائل دعايتهم . حتى على منابر الكنائس كانوا يُذيعون أَخباراً ملفّقةً عنه ليُخيفوا الناس . والجماهير تُقاد كالأَغنام ، والدعاية تُؤثّر ...

ولكنَّ سفينة الداهشيّة استمرَّت سائرة بعزمٍ وثبات ، متخطّيةً جميع الحواجز، مُدمّرةً كلّ العوائق ، مزيلةً كلَّ ما يعترض سيرها من عقباتٍ كأداء.

 وأخيراً ، انتصر الحقُّ وزَهَقَ الباطل ، إِذْ أعاد الرئيس كميل شمعون جنسيَّة داهِش السليبة .

وكان داهش ملازماً لبنان ، لم يُفارقه على الإِطلاق . ولكنْ لم يكن أحدٌ ما يعلم بهذا السرّ سوى الداهشيين .

وقد أُعيدت جنسيته إليه في عام 1953 . وسارت سفينة الداهشيّة مثلما يجب أن تسير رغماً عن الحاسدين والموتورين .

وقد أَحزنت والدة داهِش الجريمةُ التي أوقعها الباغية بشارة بابنها ، كما أَذْوَتْها حادثة انتحار ماجدا ابنة ماري حدّاد ، إذ انتحرَت احتجاجاً على تجريد داهِش من جنسيَّته وتشريده في أرجاءِ المعمور ، وقصدها أن تُسمع صوتها للرأي العام بواسطة الصحف اللبنانيّة ، ولكنْ لا حياة لمن تنادي . فالصحافة في بيروت ، عوضاً عن اتّباعها صوت الضمير ، ودفاعها عن الظلم الهائل ، راحت تنشر أكذب الحوادث ، وتختلق أحطَّ الأمور ، وتلصقها بالمُعتَدى عليه الدكتور داهش استدراراً لعطف المجرم بشارة .

أَقول هذا والألمُ يمضُّني ، والغضبُ يستفزُّني .

وكان نتيجة هذه التلفيقات ، وتسخير الضمائر ، ما حدث في لبنان منذ أَربعة أَعوام .

وما يزال الحبل على الجرّار ، مثلما يقول المثل .

إذْ تهدَّم اليوم لبنان ، وتيتَّم أبناؤه ، وذُبِحَ رجالهُ ، وترمَّلت نساؤه ، وثكلت أُمّهاتُه ، وتردّم بنيانُه ، وتزلزلت أركانُه ....

وما ذلك إلاّ لأنَّ جميع صحف لبنان لم تنحَزْ منها أية صحيفة لمؤازَرة الحقّ ، ومناصرة المعتدى عليه ، والتنديد بالمجرم .

كما لم يبرز أيُّ وزيرٍ ، أو نائبٍ ، أو محامٍ ، أو صاحب شهامة، ليشجب الظلم الذي أوقعه الوصوليُّ برجلٍ بريء .

هذا ما سبَّبَ دمار لبنان وخرابه ، وذهاب ريحه .

فيا أُمَّ داهش ، أيّتها الجبَّارة التي طواكِ الردى حزناً على ابنكِ ، لقد انتقم الله لكِ من الظالمين ، وأَدّب المدينة التي وقفَتْ مكتوفة الأيدي ، دون أن تنحاز لجانب الحقّ الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، بل استمرَّت بسيرها في ركاب المجرم والتصفيق له ، فإذا بالمقنبلات تُزلزل مدنها وتُردّم عامرها .

وما ربُّكَ بظالمٍ لعبيده ، إنّما هم لأنفسهم ظالمون .

 

                                                      أنطون مرعب الداهشيّ

                                                  بيروت ، الساعة 4 بعد الظهر

                                                      تاريخ 30/1/1979

 

 

 وَفاةُ أُمّ النبيّ الحَبيِب

رَقَدَتْ رُقَادَهَا الأَبديّ دُونَ أن تُزعجَ أحَداً

 ظاهرةٌ في السَّماءِ غَريبَة

 

جاءَ في الوقائع الداهشيَّة ما يأتي :

عند الساعة الحادية عشرة ليلاً ، رقد جميع من في منزل الرسالة من آل حدّاد وحجّار وسواهم بعد جهادهم المتواصل في سبيل الرسالة المقدَّسة :

وأوت الفقيدة الغالية السيّدة (شموني) إلى سريرها ، وهي تشعر بضيقٍ في صدرها . فتحاملت على نفسها ، وجاءَت المطبخ والجميع نيام ، وصنعت فنجان شاي عساهُ ينعشها قليلاً ، فلم تجد إلى الراحة سبيلاً . وكانت الساعة عندئذٍ الواحدة بعد منتصف الليل ، فتوجَّهت بخطوات بطيئة إلى غرفة ابنتها انتوانيت وكريمتها ليلى ، وهناك أسلمت الروح قرب سريريهما .

وقبل وفاتها بعدَّة دقائق التفتت إلى حفيدتها ليلى ، وقالت لها قبل أنْ تنطلق روحها إلى باريها :

  • إني سأموت يا ليلى !... ووصيتي أن تُحافظي على الكتاب المقدّس الذي رافقني طول أيام حياتي ....

فبكت الحفيدة ووالدتها .... وهنا استيقظنا جميعاً ، وكنتُ مضطجعاً بعد تعب النهار في الغرفة التي كانت تنام فيها منذ عدَّة أشهر .

وهرعنا مذعورين لهذا النبأ المفاجئ مع الأخت ماري حدّاد ، وزوجها الأخ جورج حدّاد ، وكريمتيهما أندره وزينا .

أمّا الغلامان (إيليّا وهادي حجّار) فبقيا نائمين في غرفتهما دون أن يشعرا بالحادث المؤلم في سكينة ذلك الليل .

وللحال استدعينا الدكتور فريد أبو سليمان من منزلِه (فرن الحائك)، فحضر سريعاً بسيّارتِه واقترب من الفقيدة ، فإذا هي جثَّة بادرة . والتفت إلينا وقال :

  • إنها توفيت بالذبحة القلبيّة . وها قد فارقت الحياة ، وجميع الانعاشات الطبيّة لا تفيد .

وكذلك حضر من (جونيه) على جناح السرعة الدكتور جورج خبصا ، وزوجتهُ السيّدة أوديت ، على أثر مخاطبةٍ تلفونيَّة ، وكان الحزن يغمر قلوب الجميع ووجوههم لأَنهم بموتها فقدوا سيّدة بارَّة صالحة نقيَّة ، هيهات أَنْ يجودَ الزمانُ بمثلها على هذه الأرض الشقيَّة .

وهناك ظاهرة غريبة شاهدها جميع الحضور منا ، وذلك أَن النور الكهربائي انطفأ فجأةً في المنزل وفي الحيّ على أثر وفاتها . والتفتنا إلى السماء في تلك السكينة الرهيبة فإذا هي صافية وخالية من الغيوم . ولكننا مع ذلك كنا نرى بروقاً متوالية تلمع من أطراف السماء وجوانب الفضاء بصورةٍ غريبة . ثمَّ لمع أمام أعيننا كوكبٌ وهّاج تلألأ قليلاً من جهة الشمال ثمّ هوى وانطفأ بغتة وتوارى عن الأبصار . وعلى إثر ذلك عادت أنوار الكهرباء إلى المنزل والحيّ وسائر أحياء المدينة ... فسبّحنا الله خاشعين ، وتأكّد لنا أَنَّ هذه الرُّوح الطاهرة تستقبلها الأرواح النورانيّة الطاهرة ، وترتفع بها إلى مقرِّها الأخير حيث السعادة والراحة بعد أَن تعبت كثيراً ، وتعذّبت كثيراً ، وجاهدت جِهَاد البطلات الباسلات حتى الدقيقة الأخيرة من حياتها .

أَمَّا دفنُها فكان الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم (23-11-1949) وذلك في مدفن آل خبصا في جونيه (كسروان). فرقدت بسلامٍ بجوار الشهيدة (ماجدا حدّاد) بعد إتمام معاملات الدفن من قِبَل الحكومة حسب الأصول .

وقد شيّعها إلى القبر كلٌّ من الإِخوة الدكتور خبصا ، جورج حدّاد ، الدكتور فريد أبو سليمان ، الدكتور نجيب العشي ، وبعض الأخوات الداهشيّات .

وقد ودَّعتُها بحرقةٍ ولوعة ، وشيّعتُها مع إخوتي وأخواتي بألمٍ ودمعة ، إذ كانت لي ولهم منذ عدَّة سنوات بمثابة المعزّيَة الرؤوم ، والأم الحنون . رحمها الله بعدد حسناتها ، إنها كانت كثيرة .

وهنا يجدر بي القول إنّ أحد المصوّرين البارعين حضر معنا إلى المدفن ، وأخذ عدَّة رسوم تذكاريّة ، وهناك على نعش الفقيدة نثرنا أكاليل الأزهار النديّة ، مبلَّلةً بدموعنا السخينة السخيَّة .

وفي خاتمة المأتم تلونا على قبر الفقيدة صلاة النبي الحبيب الهادي :

 

                        صَلاةُ النَّبيّ الحَبيب الهادي

يا أَبي وأَبا البرايا .

إِرحم ضعفنا الموروث .

شدّد قلوبنا كي نؤمن بقدرتكَ ونحدّث بعجائبك .

اغرس في أَعماقنا بذور الحب والشفقة والرحمة والحنان .

أبعدْ عنَّا التّجارب التي تريد غوايتنا وإِسقاطنا في دياجير الخطايا .

سدّد خطواتنا في طريق النُور والحق واليقين .

أبعدْ عنّا الأفكار الدنيئة ولا تدعَها تقرب منَّا .

أَنتَ خالق البرايا وما فيها فرحمتك وحنانك يسعان كلَّ الكائنات معلومها ومجهولها .

أشفِقْ علينا ، يا الله ، ولا تحاسِبْنا مثلما نستحقّ فنهلك .

لا تدع الطمع يستولي علينا فيجرفَنا بتيّارهِ الرهيب .

دَع القناعة تحتلّ أرواحنا فلا نطلب سوى القوت فنمجِّدك .

أَبعدْ عنَّا الأشرار والهازئين بكلام الله ، أَنِرْ بصائرهم .

طَهِّرْ أرواح الخطأَة وأرسِلْ لهم قبَساً من أنوارك الإلهيَّة فيخشعوا لعظمتك .

أَقِلنا من العثرات الرهيبة واشمل الجميع بعين عنايتك الساهرة .

أَيُّها الأبُ العَطوف ،

كلُّ مَن ألقى اتكالَهُ عليك ، وعَمِلَ بوصاياك ، وضحَّى مِن أَجل اسمك ، واحتقر رغباتهِ الأرضيَّة ، ونبذ الدنيويَّات ، وعطف على البؤساء ، وبشَّر بعجائبك ، وآمن بنبيّك الحبيب الهادي ، فلهُ السعادة والسماء ، والنور والسناء ، هناك حيث الضياء والبهاء .

إذْ يخلد مع الخالدين ،

ويتنعَّم بأنوارك الوضّاءَة حتى أبَد الآبدين . آمين .

                                                           حليم دمُّوس

                                                     23 تشرين الثاني 1949

                                                     (نقلاً عن الوقائع الداهشيَّة)