info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "أقوال الأدباء والشعراء والصحافة بكتاب ضجعة الموت لمؤلّفه الدكتور داهش' "

 

أقوال الأدباء والشعراء والصحافة بكتاب ضجعة الموت

لمؤلّفه الدكتور داهش

 

ضجعة الموت

في ردهات "ضجعة الموت"

يفاجئك الدكتور داهش

ويشدُّك إلى دائرة الذهول والدهشة

                                                        بقلم الشاعر ياسر بدر الدين

 

بين يدي الآن كتاب "ضجعة الموت" للدكتور داهش؛ طبع سنة 1936 في 208 صفحات على ورق صقيل. كتبه بالخط الفارسي الأستاذ محمد حسني وزينه الرسام الإيالي مورللي بمائة لوحة وضع فِكَرَها المؤلف.

في ردهات هذا الكتاب أنت عرضة لمختلف المفاجآت. منذ اللحظة الأولى يفاجئك الكاتب ويشدك إلى دائرة الذهول والدهشة:

كل هذا الإتقان والفن والأناقة في الشكل، قبل حوالى نصف قرن من الزمن. ثم ينتقل بك إلى الداخل، فيفاجئك بالمقدمة، ويضعك تحت شلالات الحزن، في ممرات ضيقة بلا سقوف، توشح جدرانها الكآبة.

ويفاجئك أيضًا بحبه للموت، على غير ما تعودت سماعه من الناس؛ إذ كلهم يتشبثون بالحياة، ويعيشون كأنهم فيها مخلدون.

وفي أثناء القراءة، تنتقل من مفاجأة إلى مفاجأة، ومن حزن إلى حزن، فيضطرب بك النبض، وتتقطع الأنفاس، ولا تكاد تنتهي إلا وأنت على حافة الاختناق.

إن دافع الدكتور داهش في الإخراج الجميل هو كما عبَّر عنه في غير مكان من الكتاب تلبية لرغبة فنية في نفسه. ودافعه في كتابته هو "الحقيقة" كما قال في المقدمة:

"ليس من يكتب للهو كمن يكتب للحقيقة".

من أجل ذلك جاء أدبه واضحًا كالنهار، صريحًا وجارحًا.

فهو لا يكتب للكسب ولا لإرضاء القارئ أو السلطان، بل هو يكتب ليصفع ويهذّب، ويقتلع ويزلزل ويوقظ، فقد أ‘طى الكتابة دورها الانقلابي المتمثل في التمرد والخروج على العادي والمألوف، في عملية غسل الصدإ المزمن من ذاكرة الأرض، ومسح غبار النفاق المتراكم فوق ستائر التاريخ وعبر مختلف الأزمنة والعصفور، فكانت كلماته وأقوالهُ كأعماله وممارساته، وشمًا جميلاً على ذراع الحقيقة الجميل.

إن كلامه عن القيقة هنا ليس في إطار البحث النظري، والتنقيب والدوران والوصول في نهاية المطاف إلى الطريق المسدود، كما هي الحال عند سائر الكتّاب والأدباء؛ ولكنه في مجال القول والعمل والتطبيق، يشفع بما يقول، نصفُ قرن قضاها المؤلف في الجهاد والعمل المتواصل من أجل الحق والحقيقة والبلاغ المبين. فهو لا يفتش عن الحقيقة، بل يعلنها ويبلّغها.

إن أول ما يواجهك في الكتاب، عندما تضع أول قدم في خمائله الغنَّاء، ذلك النهر المتدفق الغضوب من الحزن، المنساب عبر جميع الصفحات، حيث أنت مجبر في المسير على ضفافه بحذر، محاطًا بشجر الدموع وظلال الكآبة، وكيف التفتّ فضباب ودمع وألم وتفجع.

___________________________________________________

" إنها نفثات شاب حزين". "دمعتان تألقتا في محجريه". "حدثهم عن آلامي". "قصتي المخزنة المؤلفة". "ها هو يئن لوعةً لابتعاد حبيبه عنه". "انحنى فوقه الرجل وهو يبكي بحرقة ولوعة". "قد ذهب المسكين مثقلاً بآلامه القاتلة". "وهو غارق في حزنه العميق". "لقد قُدِّر لي منذ الأزل أ، أتذوق كأس المرارة". "يا لفجيعة هذا الكون وما يحويه". "يا للمرارة الشديدة التي تذوقها البشر" "يا للدموع التي لا ينضب لها معين". "يا للتعس، يا للفناء، يا للشقاء".

       ___________________________________________________

       إن الحزن صفة تلازم الأنفس الشاعرة، ويكاد لا يخلو منها أي عمل فني أو أدبي، بل إن كل عملٍ جميلٍ حبرُهُ الحزن، فالحزن مصل الجمال وغذاء الحائرين التائهين في أسرار هذا الكون ومتاهاته، ولكني لم أجد حزنًا أعمق من حزن هذا الكتاب، ولا كاتبًا أكثر توجعًا وتفجعًا من صاحبه الذي استطاع أن يخلق مثل هذه الأجواء المحزنة والمحرقة وينقلك إليها وينقلها إليك، ويبقيك غارقًا في الحالة، حتى بعد إغلاقك الكتاب.

       إن المؤلف لم ينجح في خلق هذا المناخ، لو لم تكن ينابيع الحزن عميقة الغور، عذبة التفجر في نفسه العلوية الرقيقة.

       فلو كان حزنه، كحزن سواه، على امرأة فقدها، أو على فرص ثمينة أضاعها، لهان الأمر وأمكن التعويض، ولكن كما يظهر من وراء الكلمات، أن حزنه هو على أمر (لا يمكن تعويضه) ولا ينتسب إلى التراب.

       حزين على نفسه أولاً. وكيف تعيش نفس مرهفة على هذه الأرض ولا تحزن؛ وحزين على الناس، الذين يحبهم، ويحترق عليهم زفرات. يمد اليهم حبال النجاة، وهم غارقون في لجج شرورهم ولا يأبهون.

إن عالم الحزن في هذا الكتاب من الغرابة بمكان. إذ إ،ه مرتبطٌ بنفسية المؤلف وتركيبها وعظمتها ودورها وأهدافها. ونحن في رحاب هذا العالم لا نملك من أدوات التحليل ووسائل الغضاءة إلا القليل، فنبقى أمام غرابته، رغم المحاولة الصعبة والمتكررة، في غربة وتحرق وضياع.

       ولا يكتفي الدكتور داهش باختيار كلمات الحزن الموحية والموحشة، بل يعمد إلى اختيار الصورة الحزينة والحالة الحزينة، ويضعنا ببراعة الفنان والمصور والمبدع في أغرب الحالات وأرهب الصورة. فنجد أنفسنا فجأةً وجهًا لوجه أمام الموت: الشاب في تابوته في حالة النزاع الأخير، بعيدً عن وطنه وحبيبته وطفلته يلقّن "الرجل الغريب" رسالة منه إلى الحبيبة.

       إن أوجع ما يكون الحب إذا أمتزج بالموت، وأقتل ما يكون التأثر إذا كان من أجل طفل، وإن حالة النزاع في الموت، وأقتل ما يكنن التأثر إذا كان من أجل طفل، وإن حالة النزاع في الموت لأصعب من الموت نفسه.

وبهذا نرى – ومنذ البداية – كيف وضعنا المؤلف بهذه السطور القليلة، أمام مشهد من أغرب المشاهد وأكثرها تأثيرًا وإثارة، مؤمنًا أن لا وسط في الفن، فإما أن يكون العمل فنًا ناجحًا أو لا يكون.

والمؤلف يوظف هنا كل العوامل في خدمة الحالة، فالتابوت الخشبي حالك ومرعب، والشاب المحتضر نحيل وشاحب، والمكان ناء ومهجور، و"الرجل الرسول" غريب، حتى أن وجود الطفلة الجميلة، لم يكن إلا لتعميق الجرح وتعظيم المأساة، فلا تلتقظ أنفاسك وتفرح حين رؤيتها حتى تعود لتقتلك العبرات.

       ويعود الحزن ليأخذ شكل الحنين ويشف عن ؟مإ جهريٍ له في نفس المؤلف، إذ يتلمسهُ من الموت المتمثل بالتابوت، ويأنس لحنوِّ أخشابه عليه، وهنا المفارقة العجيبة: "ليت أحدًا، كائنًا من كان، حنا عليَّ، كما حنا صندوقي على جثماني فاحتواني".

ويبلغ الحزن الروعة إذ تزين به النفس الكبية، فتحمل الحب كله والحجزن كله ولا تحملهُ لأحد.

"قل لمن كانت السبب في وجود على أرض الشقاء أن لا تحزن. قل لها إنه كان غريبًا عن هذا العالم".

"أخبرها أن لا تعول عندما ترى رفاقي... وهم بدوني سائرون".

الشاب المحتضر يتمتمكلماته للرجل الغريب... يوصيه خيرًا بحبيبته ديانا وطفلته الصغيرة، ويتمنى عليه ، يصور لها كيف أحبها ومات من أجلها. وزوجه بشريط من الذكريات العذبة لأيام حبهما السعيد، فاتحًا له قلبه حتى العمق، ومضيئًا زواياه حتى الخفايا.

       ففي حالة الاحتضار ترق الروح الجميلة وتصفو، وتسقط عنها غلالات الصنعة، والقيود، فتنطلق الأحساسي بعفويتها المتناهية مبللة بحشرجات النزاع وآلام الوداع.

ويذكرني هذا المشهد بوفاة زعيم العذريين جميل بن معمر، حين نادى الحادي وأعطاه عباءته وفرسه في مقابل أن يخبر بثينة بموته، فينشد بالقرب من منزلها:

 صدَحَ النعيّ وماكنى بجميلٍ              وثوى بمصر ثواء غير أفولِ

قومي بثينةُ واندبي بعويلِ                  وابكي خليلك دون كل خليلِ

ولما سمعته بثينة، خرجت خائفة واجفة قائلةً له: "إذا كنت صادقًا فقد قتلتني وإن كنت كاذبًا فقد فضحتني، فأجابها، والله ما أنا إلا بصادق، وناولها عباءته كدليل لصحة ما يقول فكادت تجن وأنشدت على الفور...

"سواءٌ علينا يا جميل بن معمرٍ             إذا متَّ بأساءُ الحياة ولينها".

       ومع انشغال الشاب بالتذكر واستحضار أجواء الحب والحنين يذهب في شبه غيبوبة، ينطلق من خلالها، في قفزة رائعة إلى "جنان النعيم". ومع ارتفاعه هنا، ترتفع أجنحةُ الكلمات، وتتوالى الصور وتتزاحم، ويحلّق الخيال فتنتقل روحه من مكان إلى مكان، إلى أن تلتقي بمعبودته ديانا وهي تعزف على قيثارها، والحواري الفاتنات يحتطن بها مصغيات، فتسطع بينهن كالشمس وتنشر في أرجاء الجنان. ثم يسمعها تنشد على أنغام قيثارها السحري أعذب الأناشيد، من بينها أإنية كانت تنشدها له في عالم الأرض.

وهنا يبرز مبدأ في غاية الأهمية والدقة، هو أن لا موت ولا فناء بل انتقال  وتقمص، ولكن التقمص على الأرض لا يسمح بالتذكر، على عكس الانتقال إلى العوالم العلوية، فالحبيبان المتساميان يتذكران. هي تتذكر أغنياتها السابقة، وهو يتذكر ما كانت تسمعُهُ على الأرض.

وتستمر ديانا بالعزف والغناء فتنشد في أروع الحب:

"من كان يعبد حبيبته ونالها فقد فقدها.

ومن لم يتصل بها وبقي فاقدًا إياها فقد نالها.

لأن نفسه تطلبها وشعوره الداخلي يبقى هائمًا بها".

"يا لهناء من لم يفز ببغيتهِ من لقيا معبودته؛

ويا لنعيمه ما دام بعيدًا عنها متواريًا"(1).

إنها أعذب وأصدق ما قيل في الحب. فمن هو الذي نال حبيبته وبقي على عهده ووعده، وأين هو الحب الخالد في هذه الأرض؟ إن الحب البشري قائم على الشهوة والإغواء وإثبات الذات. فالرجل يُحب ليُخضِع ويثبت رجولته، والمرأة تحب لتخضع وتثبت ذاتها وجمالها وقدرتها على الإبقاع والإغراء.

وتتم صفقة الحب، في أغلب الأحيان مقرونةً بشيء من الزيف والتلفيق والمجاملة، فيظهر الطرفان محاسنهما من غير المساوئ والأمرا1ض، وينتقيان أجمل الكلمات والألوان، وحين يجمعهما العيش المشترك، تتبدد الأحلام وتتبعثر الأشواق، وتبدأ طيور الحب بالابتعاد والهروب، لتحط من جديد على أغصان نديَّة ويافعة، لم تصقلها التجربة، ولم تنضج ثمارها الحياة.

_____________________________________________________________

  1. من الأناشيد 8و 9 و 10 و11 ص : 104 و 106 و 1208 و110. في هذه الأناشيد، كما في معظم صفحات الكتاب، من الصعب عليك أن تستشهد بنموذج وتترك الآخر، وقد اكتفيت هنا بالاستشهاد ببعضٍ منها، ليس على سبيل الانتقاء والتفضيل، ولكن كي لا أعيد كتابة الأناشيد بأكملها مرةً ثانية.

 

ما من شك أننا نعثر في كتاب "ضجعة الموت" على صورة واقعية وواضحة للحب، كما صورها الكثيرون، ممن كتبوا في هذا الموضوع إذ إن صاحبها يمتلك ما لا يمتلك سواه من أدوات البحث.

ابن حزم الأندلسي في كتابه "طوق الحمامة" هو أعمق من طرق هذا الموضوع بين المفكرين العرب، علمًا بأنه ليس أول من كتب، فقد سبقه إخوان الصفا وابن المقفع والجاحظ في الرسالة السابعة وغيرهم، إلا أن ابن حزم قد تميز وتفرد وأبدع في الحديث عن الحب في مختلف مراحله من الاستحسان إلى الشغف، كما وفق في الكشف عن مسبباته وعوارضه، ورصد تصرفات المحبين والعذَّال وأحسن حين عالجه كمرض يصيب النفس كما تصيب سائر الأمراض الجسم، "داءٌ عياء" وإن كنت هذه العلة "علة مشتهاة لا يود سليمها البرء". وقد أتقن ابن حزم وصف الحب وإظهار سلطانه على النفوس، وكيف يتحول المرء إلى إنسان آخر حين تلامسه أ،امل الحب السحرية معتمدًا في دراسته على الاستبطان والاستقراء: "إعلم أعزك الله أن للحب حكمًا على النفوس ماضيًا، وسلطانًا قاضيًا، وأمرًا لا يخالف، وحدًّا لا يُعصى".

       ولكننا نأخذ عليه عدم وضوح الرؤية لديه، مما أوقعه أحيانًا في شيء من التناقض وعدم الإصابة الدقيقة، فجاء رأيه، في باب التعفف في الحب، تعليميًا لا علميًا أملاه عليه موقعه الفكري والاجتماعي، كرجلٍ عالمٍ وفقيه وجدليٍّ ومؤرخ. وإن حديثه عن الحب النقي المتسامي يدخل في باب الخاص لا العام، والاستثناء لا الإطلاق، ولهذا لا يستحسن الوقوف طويلاً حياله. كما أن كثرة الأبواب التي استخدمها ابن حزم في الحب، وصلت به إلى باب مسدود، لأنه لا يجوز التقسيم الكثير والتبويب والحسم والأحكام المطلقة في مسألة هي من أدق المسائل التي تتعلق بالنفس البشرية. وما محاولات التقسيم هذه إلا من أجل الاقتراب بالحب من دائرة العلم ووضعه بين يدي علم النفس، وهذا لا يصيب إلا جانبًا ضئيلاً من الحقيقة.

       وفي الواقع فإن الحب خاضع لكثير من المعادلات النفسية والاجتماعية التي تحكمها المقاييس النسبية في حدود الظنّ والتجربة لا القطع والتحديد. ويبقى لكل حالة، وإن اقتربت من غيرها، خصائصها الذاتية، وعلاماتها الفارقة.

وما يظهر لنا من التجربة والتأمل معًا أن الحب وهمٌ بشري زائل وإن ارتفعت حمَّاه إلى درجة الاحتراق. وإن ما يتبعه الناس ويظنون به خلاصهم، ما هو إلا سرابٌ في وسط الصحراء، يسخر من ظمئهم، ويتركهم يحترقون تحت أشعة الشمس وفوق لهيب الرمال.

إن الحب العذب النقي لا وجود له على هذه الأرض، لأنه ليس من طبيعتها، ولا يستحقه الناس، وهو، وإن وُجد، فلوقتٍ قصيرٍ لا يلبث أن يتوارى ليزيد الظامئ ظمأً والمتحرق تحرقًا. فكثيرًا ما ينام العاشق إلهًا، ولكنه يستيقظ نازف الجرح، مضرجًا بدماء الألم، مبللاً بدموع الخيبة. وكما قال الناقد الفرنسي الكبير لابرويير: "إن الإنسان (عادي)، ولا يستحق إلا سعادة (عادية)".

واكتشاف مآسي الحياة وآلامها لا يحتاج إلى كثير تأمل. فكيف يكون الحب خالدًا، والإنسان نفسه فان، وكيف يكون ثابتًا والإنسان متغيّر، وكيف يعيش الحب مع المرض والغرض والقبح والشيخوخة.

إن الشيء ينتفي بانتقاء مسبباته، فالنهار يزول إذا زالت الشمس، والليل، إذا زال الظلام. وكما أن الجمال أو احتمال الجمال هو الذي يسبب الحب، فمن الطبيعي أن يزول الحب بزواله، أما ما يعنيه الناس، فليس سوى الشهوة، ولذلك نراه يتغيَّر بتغيّر الأحوال، فتصبح الإلهة خادمة، وحبيب الأمس عدوَّ اليوم، ويصير قلقكَ عليها قلقًا منها كما يقول ابن حزم.

ومن هنا كانت روعة أناشيد "ضجعة الموت" وعذوبتها؛ فأنت عندما تفترق عن حبيبتك، فإنها تبقى في قلبك ومخيلتك، كما تركتها، وتبقى أنت في مخيلتها كما تركتك، فلا يعتريك ولا يعتريها كبرٌ ولا ذبول، والحب يقوى ويطغى.

وما زلت أذكر قول أحد من أجبرو على الابتعاد عن حبيباتهم؛ إذا اكتفى من الحبيبة بالذكرى، ومن الحب بلقاء الأرواح:

"وأرواحنا في الليل بالحي تلتقي                   ونعلمُ أنَّا في النهار نقيلُ".

وكذلك قول جميل:

"يموت الهوى مني إذا ما لقيتها                   ويحيا إذا فارقتها فيعود".

وبما أن الحب يتعلَّق في أكثره بالروح، فلا يمكننا النظر إليه إلا بالمنظار الروحي، ولا يمكننا فهمه إلا من خلال المفاهيم الروحية، لأن كثيرًا من خصائصه وعوارضه لا تدخل في مرئيات الناس، ولا تقع تحت حواسهم. وإن أول مفتاح للأبواب المغلقة، وضعه بين أيدينا الدكتور داهش، هو مفتاح التقمص، وهذا يعني أن الإنسان كان موجودًا قبل أن يولد، وأن وضعه الحالي ما هو إلا نتيجة أعماله في تقمصات سابقة، وأن حياتنا الحاضرة هي حلقة في سلسلة هناك ما قبلها وما بعدها. وقد توصل الدكتور داهش إلى هذه النظرية عن طريق الروح المؤيَّد به، والاثباتات الروحية. وإن كان غيره قد توصَّل إليها عن طريق التحليل والاستقراء، كسقراط وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة وعظماء التاريخ. وما يثير الدهشة أن جميلاً بن عمر، وهو الشاعر المخضرم، قد توصل إلى هذا الاعتقاد، غير السائد في عصره، فقال إنه أحب بثينة قبل أن يُخلقا على الأرض، وسيبقى يحبها بعد أن يموتا:

ذهذه الأبيات تتلاقى مع قول (ديانا في "ضجعة الموت":

"إنه لم يخذلني، ولم يتركني،

إذ إنه حبيبي منذ الأزل وقبلما وُجد الكون!...".

فالدكتور داهش يتناول الحب في أعلى درجاته، في حالة الهيام، إذ يهيم الشابُّ على وجهه من شدة العشق حتى يموت. الشاب يحب حتى الموت، وكذلك الفتاة. فالحب هنا متبادل بين الحبيبين، ولكنه مشروط بعدم اللقاء والموت. والحبيبة رمزٌ لمدلولات غيرها؛ فكما أنها في حركة الشعر الحديث تعني عند الكثيرين، المرأة والوطن والقضية، فهي تعني عند الدكتور داهش الحقيقة والعدالة والفضيلة والحكمة.

لقد أعطى الدكتور داهش الغزل لونًا جديدًا وطعمًا جديدًا، فنمقعه وعمقه وزينه وأغناه، فالغزل منذ نشأته في الجاهلية، وصفيٌّ باك، اقتصر على الشكوى والنجوى والبكاء على الأطلال. وقد دخلت إليه بعض الجدة في عصر الإسلام وما بعده على أثر توسع الدولة العربية، وانفتاح العرب على العالم. وأقصى ما بلغه الغزل من تطور هو في العصر الحديث، حين سادت حركة التجديد والثورة على المقاييس، ورفض كل ما هو قديم. فأخذ الغزل طابع الشمول إلى حد كبير، وامتزج مع الحرب والأرض. ولكن الدكتور داهش، إضافة إلى كل ذلك، ربطه بالحنين إلى المجهول، والتوق الدائم للمعرفة والحقيقة.

إن "حب" "ضجعة الموت" يضاهي "حب" أمراء الغزل في الأدب العربي كجميل وعمر وعنترة والمنخل البشكري وامرئ القيس. وحالة الحب العابق عند هؤلاء تجدها في بيت واحد، أو في بضعة أبيات من القصيدة فما يكاد يقول المتنبي:

"عمرك الله هل رأيت بدورًا                 طلعت في براقعٍ وعقودِ

راميات بأسهم ريشها الهدبُ                تشق القلوب قبل الجلود

شيب رأسي ورقتي ونحولي                 وعذابي لى هواك شهودي"

       حتى ينصرف إلى مواضيع سواها. وكذلك عمر بن أبي ربيعة عندما يقول:

"لا تلمني عتيق، حسيبي الذي بي          إن بي يا عتيق ما قد براني".

       أو:

"ربّ حمَّلتني من الحب ثقلاً               رب لا صبر لي ولا عزم عندي".

       أما في "ضجعة الموت"، فإن الحالة تتقمص كل الصفحات، وتنتقل إليك منذ الكلمة الأولى، حتى إن "الغريب" الذي كان مروره عابرًا بالشاب تقمصته الحالة وأصبح يقطر حبًا وحنينًا.

       وبالنسبة إلى عنترة، فإن أروع ما في الحب عنده أنه جمع الحب والتذكر مع الحرب أي مع احتمال الموت:

       "ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ                 مني وبيض الهند تقطر من دمي"

       أما الدكتور داهش فإنه يفتح نوافذ الذكريات، تحت ظلال أجنحة الموت؛ فتهب نسائمها من أقاصي السنين مضمخة بأنفاس الحب، محملةً بأحزانه، موشحةً برماد الفجر وشحوب الغروب"

       "لا تنسَ أن تخبرها بأن حرقتي لرؤيتها كانت تزداد بمرور الأيام وكرور الأعوام".

"آه! إن آلامي بعثتها الذكريات،

ذكريات الماضي السعيدة المتوارية.

وها إن دموعي تنهمر متساقطة متسابقة".

ثم يعود ليحوّل ألم الذكرى إلى سعادة:

"انظروا عند تخيلي طيف حبيبي كيف تسعدني الذكريات،

واسمعوا خفقان قلبي المتزايد عند ذكراه.

يا لقلبي إنه يصيح بلوعة ناشدًا حبيبه".

هذا التحول هو سر الإيداع في هذا الكتاب، وهو الخطي الرهيف والمتين الذي يربط الأوصال والمقاطع ويدخلها في دوائر التغير والدهشة والذهول. يقوم هذاا لتحول على عنصرين: كيميائية اللفظة وكيميائية الصورة.

       كيميائية اللفظة، إذ تتكاثر المعاني والرموز والدلالات، حين تقع الكلمة في موقعها المخصص لها، كالحجر عندما يقع على صفحة الماء. وكيميائية الصورة، حيث تنتشر الألوان، وترتسم الأشكال وتتغيَّر، وتكتسي العظام لحمًا، ويتحول الثلج إلى نار:

"لقد كان قلبي خاليًا باردًا، يتمشى الموتُ فيه

كقطعة ثلجٍ متبلورة، من شدّة البرودة".

"ولكن الآن ذابت من حرارة لقياه،

فاستعرت النيران الكامنة...

لقد أصبحت جمرًا متقدًا...".

"إنها أشكالٌ متعددة، لا شكل  واحد كما ادعيتم أيتها الحواري والعاشقون.

إنني أرى غير ما ترون".

أي شكل يأخذه النسيم حين يمتزج بها، وأي رقة تفوق رقته؟! هذه هي كيميائية الصورة عند الدكتور داهش:

"ليتها تدعني أمتزج بها كي أرقّ!َ فوق رقتي".

وهذه هي الصور البانورامية، الحرية بالنظر والتأمل، بما فيها من تناسق اللون، وتآلف الظل، ووضوح الرؤية، ودقة الحركة، وجرأة التعبير. إذ يكفي الفنان أن يمسك بالريشة ويغمسها بالألوان حتى تصبح الصورة حية، تُلمس وتُسمع وتُشمُّ وتُعلق على الجدار. إنها الصورة الرومانسية الحالمة التي تأخذ شكل الحلم من غير أن تفقد تسلسلها المنطقي في المكان والزمان:

"وها هي معبودتي (ديانا) محاطة بحواري الجنان الساحرات،

وقد نضين عنهن غلالاتهن الرقيقة، وخضن جوف النهر

ليكنَّ إلى جانبها".

إن السير في عالم "ضجعة الموت" كالسير على أرض تعيش في داخلها براكين على أهبة الانفجار. ولكنها رائعة الخصب، أنت دائمًا في حالة دهشة وانبهار أمام حشد من الرموز وازدجام الصور، وتدفق المشاهد، وتوالد الرؤى والأحلام. أنت أمام احتمالات التفجر وانقلابات الطبيعة، وتغير الأشكال والألوان.

أنت بين الوضوح والغموض، والهدوء والصخب.

أنت مع "ضجعة الموت" في أحضان الأبدية.