info@daheshism.com
أسرار الزمن والأعوام

 

  1. هناك في الأغوار

ظلام دامس !

وصمت أخرس رهيب يفرض إرادته الجبّارة في هذه الأعماق السحيقة.

إنّ أشعّة الشمس لأعجز من أن تستطيع اختراق بروج هذه الأغوار التي انبثقت عن الإرادة الإلهيّة .

فوطننا تكتنفه المهابة . ويحتاط به السكون الأبدي . والصمت السرمدي . لا همسة ولا نأمة.

فالكرى المعسول ألقى علينا إكسيره السحري . فاستسلمنا لسلطانه العذب . وغرقنا في محيطاته العجيبة . وجعلنا نحلّق في فراديسه الغريبة .

لقد مضت علينا أجيال ونحن غارقون في سباتنا العميق المتواصل دون أن يعكّر علينا صفو خلوتنا وسكينتنا معكّر . ودون أن نملّ أو نتذمّر من وحدتنا وانفرادنا .

وكان للأشعّة البرّاقة المنبعثة من مادتنا مشهد خيالي فتّان ، إذ كانت تتألّق كأنوار الحُباحب فتضفي على المكان روعة تبعث فينا الخشوع التام .

نحن كتلة معدنيّة هائلة متراصّة يمسك بعضاً بعزم وجبروت صارمين ، إذ تأبى الانفصال والافتراق . لأننا معشر الذهب تلقنّا الحكمة من الأحاديث التي كنّا نتسقطها عندما كانت الأقدار تلقي بنصائحها وإرشاداتها الثمينة على الأعوام التي كانت ترسلها إلى كوكب الأرض .

وكم كنّا ندهش ويأخذنا العجب لما كانت تقصّه علينا الأعوام بعد عودتها من طوافها بين البشر ، وانتهاء أيّام حكمها القصيرة الأمد . فقد كانت تحدّثنا بأعجب الأنباء ، وأمتع الأخبار ، وأعنف الحوادث التي حدثت في خلال أيام إقامتها .

وكانت حوادث بعض الأعوام تتفوّق على أحداث غيرها بما وقع فيها من فوادح الأمور وعظائم الشرور .

وكان أعجب ما كنّا نؤخذ به اتفاق كلمة آلاف الأعوام القائلة :

إنّ أهمّ ما يهتم له البشر ويتمنون الحصول عليه ، إنّما هو معدننا ذو البريق الأصفر ... إذ أكّدت لنا هذه الأعوام المحالة إلى التقاعد أنّ شأننا عند هؤلاء البشر بالغ في عظمته وأنهم يبذلون في سبيل الحصول علينا مشقات هائلة . ويمنون بمتاعب فادحة كي يتمّ لهم الاستيلاء على القليل من معدننا .

وخلاصة الأمر أن أمنيتهم في دنياهم أن يحصلوا على أكبر قدر من مادتنا ... فهي لديهم وسيلة الوسائل وغاية الغايات .

وأيم الحق لقد شعر البعض منّا بشوق ملح أن تتيح له الأيام مشاهدة عالم البشر ليرى بنفسه مقدار صحّة هذه الأنباء العجيبة . وكي يتمتع بعالم جديد آخر .

خمسة آلاف ومئة من الأعوام طويت منذ راودت بعضنا هذه الرغبة العجيبة . وفي نهايتها تحققت أمنيتنا ...

 

2-                                دويّ المعاول يذهلنا

ودوّت لعلعة آلات البشر الجهنميّة وهي تعمل في جوف الأرض فراحت تمزقها شذر مذر وهي تريد البلوغ إلى مقرّنا البعيد المسافات .

وجعلت تنتزع أحشاء هذه الأغوار الشاسعة الأعماق كي تستعمر عالمنا الذي مكث مستقلاًّ منذ كون الله هذا الكوكب الدوّار .

ويمضي كل يوم كانت تزداد الضجّة المروعة معلنة بهديرها المتواصل العنيف اقتراب نهايتنا.

وانقضت ستة شهور كاملة . وكأنّ جبابرة الشياطين كانت ترقص فوقنا بعد انطلاقها من جهنمها في خلالها لذّة الرقاد الذي تمتعنا فيه عشرات الآلاف من الأعوام .

وفي نهايتها بلغ هؤلاء البشر الملاعين إلى عقر دورنا .

فأسقط في أيدينا ... وجعلنا نلوم أنفسنا . وينحني بعضنا باللوم على البعض الآخر على تلك الرغبة التي بدت منا منذ خمسة آلاف ومئة من الأعوام .

وجعلنا نقول :

  • ما هذا إلاّ جزاء عادل أوقعته بنا العناية لرغبتنا المجرمة . إذ تمرّدنا على الحقّ سبحانه . ولم نقنع بما منحه إيّانا من طمأنينة شاملة عصفت بها الآن رغبات هؤلاء البشر . وما دمنا قد حكمنا على أنفسنا بهذا المصير ونحن جد راضين . فلنتقبّله طائعين . حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

 

3-                     أنوار عجيبة يخطف سناؤها الأبصار

وسلّطت علينا أنوار عجيبة من أجهزة غريبة . فخطف بريقها المتألّق أبصارنا وطغى على أنوار مادتنا . فازدادت حيرتنا إذ لم نفهم كيف يتجشم هؤلاء البشر مثل هذه المشقات في سبيل الحصول على معدننا البرّاق بينما يملكون مثل هذه الأشعّة المتوهجة التي تعصف بأشعتنا وتهزأ بها .

إنّ هذا الأمر العجيب لهو فوق إدراكنا وتصوّرنا .

وقد بدّدت هذه الأنوار الساطعة دياجي الأنفاق حيث نثوي ، فكشفت الحجاب عن أبصارنا ...

وإذا بنا نشاهد البئر اللولبيّة الهائلة العمق التي حفرها هؤلاء البشر حتى بلغوا عاصمتنا المنيعة.

واندفع الجميع . وجعلوا يلمسون تربتنا ويمعنون النظر فيها بشغف ملحوظ .

وقال أحدهم – وربما كان الخبير -:

  • إنّ أتعابنا لم تذهب سدى . فكما يظهر لي أن هذا المنجم غنيّ في مادته الذهبيّة .

فلمعت عيون مرافقيه وتألّقت تألّق الطمع .

إنني أقسم صادقاً : لو كنت ممن وهبتهم العناية فماً لكنت أطلقت منه صرخة مزلزلة تدخل الخوف في قلوب هؤلاء الذين دنّسوا قدسيّة هذا المكان بتمنيّاتهم التافهة وأطماعهم الخسيسة .

لقد أصبنا برد فعل بعد هذه الصدمة التي أكدّت لنا أن البشر لا تدور أفكارهم إلاّ حول مادتنا . وهم يعيرونها غاية اهتمامهم وعنايتهم . أمّا الاتجاه نحو المثل العليا . والتمسّك بالفضيلة . والارتفاع عن حقارات دنياهم الفانية . والسموّ بأرواحهم المتعبة من أتراح كوكبهم ووجوب جعلهم مادتنا الذهبيّة وسيلة وليس غاية ... فإنّها كلمات خياليّة فتّانة المعاني تحيا البشريّة بألفاظها الخلاّبة دون حقيقتها واأسفاه !

 

4-                             الإنتقال من عالم إلى عالم  

نحن الآن كتل متراصّة من (دار سكّ النقود )!

بعد أن تفكّكت أوصالنا . وانفرط عقد اتصالنا .

وبعد أن انتزعتنا أيدي القساة من بين أحضان آبائنا وأمهاتنا .

اليوم فقط شعرنا بالألم وتذوقنا مرارته الصابيّة بعد ما فقدنا نعمة الإجماع العائلي الهنيء ...

لقد دفعوا بنا في أتون جهنمي السعير متأجج النيران . وإذا بمادتنا الذهبيّة تسيل في أجهزة خاصة منفصلة بذلك عن تراب الأجداد الذي كان ممتزجاً بها . مندمجاً في خلاياها .

وبانفصالنا عنه أصبحنا غرباء عن عالمنا الذي انتزعنا منه . فكأنه لا رابطة كانت تربط أواصرنا بأواصره .

تقدم منا بضعة أشخاص وحملونا بعناية تامة ، وأدخلونا إلى قاعة فسيحة فيها آلات معقدة غريبة الأوضاع عجيبة الأحجام . ودفعونا في فوهة فولاذيّة فاغرة الفم .

وسلّطوا علينا تياراً كهربائياً . فسالت مادتنا لفداحة الحرارة الهائلة التي فتكت بنا فتكاً ذريعاً . فجعلنا نسيل في قوالب صغيرة مستديرة نقش في أسفلها اسم القديس جرجس ممتطياً صهوة جواده وهو يفتك بالتنين المخيف . وأطبقت علينا أغطية القوالب المنقوش فيها رأس الملك جورج الخامس . واستمرّت العمليّة ساعة كاملة خرجنا في نهايتها صفوفاً طويلة مرتبة بعد أن بصقنا هذه الآلات من أشداقها .

وعندما زالت عنّا الحرارة الشديدة وبردت أجسامنا جعلوا يجمعوننا ويضمون كل خمسين قطعة معاً .

ثم أدخلونا ضمن خزانة حديديّة هائلة الجرم وأغلقوا علينا الأبواب المتينة التراكيب .

فإذا بالظلمات الكثيفة تكتنفنا مرّة ثانية .

ولكن شتّان بين المرتين ....

 

5-                                 الافتراق

 مضت عشرة شهور غير منقوصة منذ أدخلونا في جوف هذه الخزانة اللعينة تعرفت في خلالها بزملائي الصفر الوجوه ذوات الوزن والرسم المماثلين لوزني ورسمي .

وكان عددنا أربعة وعشرين ألف قطعة ذهبيّة متوهجة استخرجت من عشرات المناجم التابعة للممتلكات البريطانيّة التي لا تغرب الشمس عنها والممتدّة في أطراف المعمورة .

وقد سررت جدّاً عندما شاهدت ألف قطعة سكت من ذات المنجم الذي استخرجت منه .

فكنا نقطع ساعات الليل والنهار في التحدّث عن مصيرنا المجهول . وما يخبئه لنا المستقبل من المفاجآت بعد مفاجأته الكبرى التي أوصلنا بها إلى مسخ مناظرنا وتشويه خلقتنا إلى هذا الشكل المستدير ...

وطرقت مسامعنا خطوات عابرة . فأرهفنا الأسماع ... وإذا بها تقف أمام خزانتنا المحصنة .

وأديرت المفاتيح في الأقفال . فإذا بنا وجها إلى وجه أمام ثلاثة رجال .

فتقدّم أحدهم وانتخبني من تلك المجموعة الهائلة ...

وشاء طالعي أن أغادر زملائي فجأة . فردعتهم بحسرة وودعوني بلوعة صادقة .

وهكذا تمّ الافتراق ....