info@daheshism.com
الطبيعة الساحرة وجمالها، مناجاتها:

 

ليلة ربيع قمراء

 

كانت ليلة صافية الأديم،

وقد ازدهت بها الحدائق،

إذ كللت هامتها شتّى الأزاهير، ففاح عبقُها العطري،

وأسرابٌ من طيور الليل أخلدت إلى أفنان الأشجار الكثيفة،

التي يجري تحتها النهر المنساب، المتعرّج،

ذو المياه البلورية الشفافة!..

فلقد سُحرت بتلك المناظر الليلية المبهجة!

وظهرت عن بعد أشباح المعابد ذات الأعمدة المرمريَّة،

كأنها من جبابرة حراس الليل!...

وتألقت أنوار القصور المرتفعة، ذات البنيان الفخم،

كأنها من مواكب النجوم السواطع!

وظهرت قمم الجبال الشامخة،

كأنها مردةٌ

قامت لحراسة السهول المنبسطة تحت أقدامها!...

وشمخت أشجار الحور، والسنط

فوق سطح المياه المنسابة،

والحشائش الخضراء تميل يسرةً ويمنة،

بتاثير النسيم البليل الذي يداعبها الفينة بعد الفينة!...

وقد تدلَّت أغصان الغار، والدلْب،

والزيزفون ذي الرائحة العطرية المسكرة،

وغيرها من شتى الأشجار القائمة بجانب ضفّة النهر

الجاري في تلك الجنان السحرية،

فظهرت الطبيعة في أتمِّ روعتها!

ولم تنسج على منوالها أشجار السرو

والصفصاف الذاهبة في الفضاء،

بل آثرت أن تكون بعيدةً عن عالم الأرض

ذاهبةً إلى عالم العلاء!

وبرز البدر فأنار جنبات الكون الفسيح،

وغمر بنورهِ الفضيّ كل ما كانت تقع عليه العين،

فازداد المنظر سحرًا وجمالاً!...

ومن بُعْد... ظهرت غزالةٌ خرجت من كناسها

لتستجلي هذا المشهد الخلاَّب!

وهي تسير الهوينا مختالةً،

مأخوذةً بهذه الروعة التامة!

والهدوء ضاربٌ أطنابه،

فلا يُسمع ثم رِكزٌ، ولا نأمةٌ، ولا إيقاع!...

كلُّ ما تقع عليه العين يفيض بالحياة والسعادة!...

وأنوار البدر المتألق، وهو يتهادى في كبد السماء، أظهرت أزهارًا لا مثيل لها،

بين بيضاء، وصفراء، وزرقاء، وارجوانية،

وبنفسجية وحمراء، وغيرها من شتى الألوان المتباينة...

فمن أقحوانةٍ تتثنى يمنةً ويسرةً

تحت تأثير تقبيل النسيم العليل لها،

إلى زنابق ناصعة البياض تميل برؤوسها

بين الفترة والفترة، وأزهارُ الفلّ، والبنفسج،

والمنتور، والسوسن، وشقائق النعمان،

والنيلوفر، والأضاليا، والنسرين، والحبق...

تملأ ذلك المرج فتعطرهُ، ثم تحيلهُ جنةً خالدة!...

وسُمع من بعد... نواح الطائر المدعو المالك الحزين

يدعو إليه إلفَهُ الذي أوغل في البعد!

وأسرعت طيور الليل تحت أشجار الليمون المزهرة،

حيث اجتمعت صغارها، وهي تصفق بأجنحتها وتصيح،

فتُسمعُ لها نغمات مسكرةٌ شجية!...

وبرزت من مياهِ النهر الصافي نراجسُ طويلةُ السوق

وهي تهتزُّ تبعًا لانسياب المياه عليها،

وتعبق بأريجها فتعطر تلك الجنة الخالدة!...

وحامت الخفافيش فوق صفحة النهر،

لترتوي من مياهه العذبة، فكان صوت اصطفاق أجنحتها يؤلف مع خريرهِ

موسيقى طبيعية لا تملُّها الآذان!

كما حام بعضٌ من حباحب الليل المتألقة

على شجيرات الياسمين الناصعة،

فامتزج نورُها الوهَّاج بنقاء الياسمين،

فألف هذا المنظر مشهدًا رائعًا

لا تبغي الأعينُ عنهُ بديلاً!...

وكانت أزهار اللوتس المقدسة

تملأ ضفاف النهر من كل جانب،

فتبعث إليها روعةً وجلالاً!...

كما أن أسراب القطا، والعنادل، واليمام، والحمائم،

أطلَّت برؤوسها من وكناتها الآوية إليها في أعالي الأشجار،

وكأنها لا تريد أن تحرم نفسها من التمتع

بهذه الليلة الفياضة القمراء!

وهناك... جماعاتٌ من البجع، والكراكي!،

والرخم، والأوزّ،

مع طيور كبيرة أخرى لا تعرف أجناسها،

جثمتْ على الشاطئ،

تحت ظلال القصب النهري المتكاثف،

آويةً تحت أوراقهِ المتدلية الخضراء، وقد سكنت حركتها،

إذْ أخفت رؤوسها تحت أجنحتها غير آبهةٍ بكل ذلك!

وبرزت الطبيعةُ بتام سحرها وجمالها!...

وكانت أنوار البدر تُنير أغوار النهر،

فتظهر الأسماك الحمراء، والزرقاء، والصفراء...

وهي تسبحُ لاحقةً بعضها بعضًا، مقتربةً من سطح الماء!

وكأنها تريد الخروج إلى اليابسة،

محركةً زعانفها وأذنابَها اللامعة الشفافة!...

ولم يطل كلُّ ذلك،

إذ سُلَّ سيفُ الفجر من غِمدِ الليل،

وبرزت ملكية النهار تتهادى بموكبها العظيم الحافل،

تتقدمها عرائسُ الفجر التي لم تقع عليهن غير عيون الآلهة

وقد امتطين الغيوم المتلبدة!...

وحلَّت كل منهن جبينها بقطرات من ندى الصباح،

فتالقت تلك القطرات تحت أشعة أنوار الشمس

التي ابتدأت ترسل خيوطها الأولى تحية لهنَّ،

وإعجابًا لظفرهنَّ

على قوات الليل المروعة، ومردته الجبابرة!

ولم تمضِ إلا دقائقُ معدودات،

حتى احتلت أنوار الشمس الوهاجة أطراف الكون الفسيح؟!

فابتهجت الأطيار،

وغردّت أغاريدَ شجيَّة،

معلنةً خلق صباح جديد!

وكأن الليلة القمراء الماضية

رؤى وأحلام!...

وأضاحيك وأوهام!...

                                                        القدس، حزيران 1933