info@daheshism.com
ألأساطير الميثولوجية

 

عشق كيوبيد

من الأساطير الإغريقية

 

قبل مضي آلاف من السنين،

وُجد ملكٌ عظيم، تخضعُ له العباد،

وتدين لحكمهِ الموروث...

ورُزق ذلك الملِك ثلاث فتيات جميلات،

ولكن كانت صُغراهنّ، واسمُها بسيشِه،

ممن لم تقع الأبصار على أتمَ جمالاً منها،

حتى تهالك على حبّها كبار الأقيال، والفاتحين،

والأمراء، وأولياء العهود،

وسَمع بجمالها القاصي والداني،

وضرُبت الأمثالُ بحسنها المتناهي...

كانت تشبهُ الآلهة بسِحر قوامها اللدن البديع التكوين!...

وكم من الأمراءِ العظام

تجشموا المشاقّ والمصاعب والأهوال الكبيرة،

غير مكترثين للعقبات المعجزة

كي ينعموا بمرآها فقط!...

وليس لأحدٍ منهم أمل

في نفس تلك اللحظة المفعمة بالرهبة الهائلة،

أشرق البدر في كبد السماء،

فألقى بأشعته نورًا فضيًا أضاء الغرفة،

كما أن خيوطًا أخرى من شعاعه،

استقرت على وجه بسيشه،

فظهر جمالها، عند ذاك،

على روعته وبهائه، وجلاله وسنائه،

فازداد جمالها جمالاً، وسناؤها سناءً، وسحرها سحرًا!

فصاح كيوبيد صيحةً خفيفة،

ووضع يدهُ اليمنى فوق قلبه،

الذي كاد يخرج من قفصه الحبيس به،

عندما شهد ذلك الجمال الذي يُعد جمال والدته أمامَهُ

كأنَّهُ خرقة قديمة بالية،

أمام أنفس قطعةٍ حريريةٍ تعرفها الآلهة!

وتساقطت الدموع من عينيه الناعستين،

عندما تصور أنه كان مُقدمًا على انتزاع حياة هذه الفتاة

التي تعيش في عالم الحقيقة لا الأحلام!...

وحنق على نفسه،

وأسرعَ يخِزُ نفسهُ بسهمٍ من سهام الحب

التي يحملها دائمًا في كنانته التي لا تفارقهُ،

وإذا به غارقٌ في حبٌ هذه الغادة النائمة!...

ثم غادر الغرفة التي تحتوي حبيبتهُ،

وبودهِ لو لم يغادرها،

مقسمًا أن لا شيء في الوجود يستطيع أن يدعهُ يسلو

هذا البدر الساطع!...

وطفق يقبل تلك الجدران المتوارية حبيبتُهُ وراءها،

كأنه بشري يشعر بما نشعر به نحن بني الإنسان!

***

ولما عرفت الإلهة أفروديت

أن كيوبيد لم يصدع بما أمرته به،

ثارت فيها براكين النيران المتأججة بالغضب الإلهي، وأقسمت أنها ستذيق هذه المخلوقة أنواع العذاب الذي لا تسنطيع له احتمالاً،

حتى تنحرَ نفسها بنفسها!...

ومن ذلك اليوم أفل نجمُ بسيشه وعاسكتها الأقدار

ورمتها بكل ما هو قاسٍ غير محتمل!

وبقي النحسُ ملازمًا لها،

في كل أمر تريدُ أن تقوم به!...

فملَّت هذه الحياة، وزهدت فيها،

وودت لو تستطيع منها خلاصًا أبديًا...

ذلك أفضل من هذه الحياة

التي تقضيها على هذه الصورة المؤلمة!...

وعزمت على الموت،

وإذا بنا نراها على قمة جبلٍ شامخ،

تُلقي بنفسها إلى الفراغ الذي تحتهُ،

كي تنجو من الآلام التي كانت لا تفارقها!...

وفي تلك اللحظة الرهيبة التي كانت تتسابق فيها الحياةُ

إلى حيثُ الموتُ ينتظرها،

عَلِم كيوبيد بما صممت عليه،

فارسل إليها ريحًا جنوبية لطيفة،

آمرًا إيّاها أن تحمل كنزهُ الثمين،

إلى جزيرة نائية لا تصلها أقدام البشر،

حيث لهُ هناك قصرٌ بديعُ البناء، فخمُ الرياش،

تجري في جنانهِ الأنهارُ الصافيةُ المياه،

المعسولةُ المذاق!...

***

وكان ما أمرَ بهِ كيوبيد!

وإذا بها ترى نفسها في ذلك المكان:

فتذهب إلى مدخل القصر،

فيُفتح مِن تلقاءِ نفسه!

وتمشي هي في ردهتِه،

فتُفتح لها الأبوابُ بيدٍ غير منظورة!

وتحيِّيها أصواتٌ أرقُّ من النسيم،

بدون أن ترى أو تعلمَ من يكلّمها ويُحييها!...

وعندما هبط الليل،

وألقى بجناحيه الحالكين على العالم المترامي الأطراف،

ظهر كيوبيد ممتطيًا الغيومَ المتلبدة بالفضاء الوسيع!...

وبقيت هذه الغيوم تهبط،

حتى أوصلته إلى مدخل القصر، فغادرتهُ وحيدًا... وعند ذاك دخل القصر، وجاس أبهاءهُ الرحبة، حتى التقى بمالكةِ لُبِّه، وآسِرةِ قلبه!...

فجعل يكلمها، وهو مضطرمٌ بغرامها الكاوي لقلبه الفتي، قائلاً لها:

  • أي معبودتي بسيشه لا تخافي!

وإن كنتِ لا ترينني الآن،

ولكن اعلمي

أنني أُحبكِ ولا حُبَّ الآلهة العظام، يا فاتنتي!...

إذ إنَّ الشمس تخجل من مرآكِ،

فتتوارى خوفًا من فضيحتها عند مرأى جمالِكِ الساحر!

فذُعرت الفتاة في البداءة،

ولكنها عادت فاطمأنَّت عند سماعها ذلك الكلام الساحر،

الناعم، الرقيق، الذي يدلُّ على أن المتكلم

شابٌ رائعُ الجمال، جذاب المحيًّا، عالي التربية،

كأعظم أبناءِ الملوك أمثالها.

وقد فتحت له مصراعي قلبها الطاهر العذري،

وقضى معها طوال الليل!...

وعندما ظهرت نجمة الصباح الأولى تتهادى في سيرها

على صفحة السماء، ودَّعها بقبلات لا تعداد لها،

واعدًا إيَّاها أن يأتيها عند الغسق!.

_ أيْ فاتنتي بسيشه!

عديني أنكِ لا تحاولين رؤية وجهي،

ولا تستغلي سلطان غرامي بكِ في هذه المحاولة!...

أتعِدينني؟!

وعند ذاك أكون لك الزوج الأبديّ،

والعاشق الوَلِه الوفيّ!...

ولكن، حاولي ألا تري وجهي إلى الأبد!

فوعدتهُ بعد تردد بسيط.

ولم تكد الظلمةُ تؤذن بالرجوع،

حتى كان كيوبيد في داخل القصر،

بين ذراعي معبودته،

فالتمست منه بسيشه أن يسمح لشقيقتيها بزيارتها،

ولو يومًا واحدًا!...

وهل كان في استطاعته رفضُ طلبها؟!

فأمر ريح الجنوب التي حملتها سابقًا بإحضارهما!

ولشدَّ ما كانت دهشتُهما ودهشتها،

عندما وجدتا نفسيهما في مكانٍ ثانٍ يشبهُ جنان الخلد، كما تصف الكتُبُ المنزلةّ...

وهرعت بسيشه تستقبلهما ضاحكةً، سعيدة، وأخبرتهما بكل ما جرى لها مفصّلأً...

وزادت بأنها لا تحيا الآن إلا لهُ،

ولا يحيا إلا لها!...

لقد عشقته إلى درجة الجنون!...

وعشقُها لهُ لم يره إلى هذا اليوم أي من بني البشر!

فأكلتِ الغيرة صدريهما،

وأعمت ابصارهما عن أنها شقيقتُهما!...

أوَلسْنَ من بناتِ البشر؟

وعندما سألتها عن هيئة حبيبها،

خفق قلبُها، وصُبغت وجنتاها بلونٍ أحمر قانٍ

خجلاً وجهلاً من معرفة هذا الأمر،

إذْ إنها لم ترَ وجههُ، ولم تحاول كما وعدتهُ بذلك!...

***

  • هذه هي المصيبة التي لا تنجع فيها حيلةٌ يا أختاه!

إن زوجك إلا شيطان رجيم

لا يقوى على الظهر في وضَحِ النهار!

وهل الأبالسةُ تستطيع ذلك؟

والاَّ فما معنى اختفائهِ في النور الساطع!

وظهورهِ في ظلمة الليل القاتمة الموشحة؟!

خذي، يا أختاه، هذا الخنجر الحاد،

وعندما يلقيه سلطان الكرى،

خذي المصباحَ وارفعيهِ فوق رأسه.

وعندما تتأكدين من صدق قولنا لكِ،

وعندما تشاهدين خلقتهُ الشوهاء،

إغْرسي هذا الخنجر في صدره،

واورديهِ مواردَ التهلكةّ...

***

 

وعادت الريح فحملتهما إلى قصرهما الملكي،

وكانت كلماتهما لا تزال ترن في أذن شقيقتهما الصغرى!

وعندما حضر كيوبيد كالعادة اليومية،

داعبتهُ ولاطفتهُ كي لا يظنَّ فيها الظنون!...

وعندما استغرق في السُبات العميق،

وهو متوسد صدرها المذهل المفاتن،

رفعتهُ بكل تؤدةٍ وسكون،

وذهبت فأخذت المصباح الزيتي،

وشحذت الخنجر تهيئةً لاستعماله في القريب...

ثم دنت من كيوبيد،

ورفعت المصباح فوق راسِه،

واليد الأخرى تشهر الخنجر،

ولشدَّ ما كانت روعتُها ودهشتها،

عندما تجلَّى لعينيها ذلك الجمال

الذي لا يُعدُّ جمالها أمامه شيئًا!

والذي يعجز أعظم النحاتين الفنانين،

عن صنع تمثال يُضاهيه حُسنًا وجمالا!..

وقد رأت أيضًا

جناحيه الصغيرين النابتين في كتفيه،

الناصعي البياض كاللجين!..

رأته... فكذبت عينيها،

وظنت أنهما تخدعانها...

وسجدت أمام نور ذلك الجمال

الذي يُخجل البدرّ والشمسَ

وكل ما هو جميل في الطبيعة!...

ويا لهُ من جمال!...

فعرفت أنه إله الحب كيوبيد،

فارتعشت إذ ذاك يدُها وهي تحمل المصباح!...

فمالت قليلاً، مما دعا قطرةً من الزيت

أن تسقط على كتف كيوبيد العارية!...

فانتبه مذعورًا،

وحدق فيها مشدوهًا!

ثم نظر المصباح فالخنجر!...

وكان حزنه في تلك اللحظة بالغًا حدًا لا يحد!...

وإذا به ينهض،

ثم يبسط جناحيه في الفضاء،

ثم يوغل في التحليق

بعيدًا عن عيني غادته، ومعبودته، وحياته بسيشه!

                            ***

وكان في أثناء طيرانه يتأوَّهُ من أعماق قلبه الكسير،

إذ إنها باجتيازها ذلك العهد المقدس

الذي قطعت على نفسها ألا تجتازه،

تقوضت دعائم الحب المتينة،

فتزعزع أساسُها ودُك!...

هو يغادرها الآن  إلى الأبد!

ولا يستطيع بعد اليوم أن يراها مطلقًا،

مناديًا إيَّاها:

  • بسيشه! بسيشه!...

ماذا عملت يا بسيشه!...

ومَن لي برؤيتك يا حبيبتي!...

أوّاه!...

ماذا صنعتِ بكلينا؟!...

                            ***

وكانت مناداتُه لها بصوتٍ حزين،

إذ كان صادرًا عن قلبٍ يشتعل بالأم

الذي لا يعلو عليه ألم.

 

وعند ذاك!

انجلى الموقف عن هبوب عاصفة هوجاء،

اقتلعت كل ما أمامها، ولا شيء يعترض طريقها،

وانجلّت تلك العاصفة الهائلة الإعصار،

بزوال ذلك القصر الذي رتعا فيهِ حينًا من الدهر

في نِعَمِ الحب اللذيذ المذاق!...

***

واذا بها ترى نفسها

وحيدة فريدة، طريدة، شريدة!...

كان حزنُها ممَّا لا تُجدي معَهُ أيَّةُ تعزية!

وكانت آلامها فوق ما تستطيع فتاةٌ مثلها ان تتحمَّل!

فأقدمتْ على أمرٍ لم تكن تحلم بأن يتم لها،

إذ إنها قصدت إلى محراب الالهة أفروديت،

وابتهلتْ إليها أن تحيطها برعايتها،

وتشملها بعفوها الإلهي عن تلك المحاولة،

محاولت أذيَّة ابنها الذي عرفت الآن

أنَّهُ كيوبيد إله الحبّ!...

***

سجدتْ في المحراب المقدس لساعاتٍ طويلة،

وهي متوسلة، مبتهلة، أن تسمعَ طلبتها هذه!...

ولكنَّ أفروديت كانت قاسية،

فلم تَحفلْ بمنافستها، الفتاة الأرضية،

حتى... ولم تحفل بدموعها

المتساقطة على وجنتيها الشاحبتين!

***

دون جدوى كانت ابتهالاتها هذه!...

وعندما لم يستطع كيوبيد صبرًا على فراق حبيبته،

ذهبَ إلى زفْس إلهِ الآلهة، ورب الأرباب،

وابتهل إليهِ أن يقبل توبة حبيبتهِ النادمة،

وأن يربطهما برباط الزواج المقدس مرة أخرى!...

***

فقبل زفْسْ رجاءَ كيوبيد!

وحقق أمنية العاشقين السعيدين!

المستعرين بالغرام القاهر!...

***

وعند ذاك فقط،

عادت الحانُ السعادة وموسيقاها،

تردِّدُ أنغامها العذبة، الشجيَّة، المبهجة،

كما كانت قبلاً

في تلك الليالي الماضية،

يومَ كانت كلُّها نعيمًا وسعادة!...

                                                                        القدس، 1933