info@daheshism.com
الصلاة والصيام:

 

                               في 25آب 1969

                رحلتي إلى نيكّو وزيارتي لمعبدِ فيتارازان

نهضتُ باكراً إذْ كانتْ الساعةُ الثالثةُ والثلث صباحاً، ودوَّنتُ وقائعَ يومِ أمس. وفي السابعةِ والربع، هبطتُ والدكتور خبصا إلى الطابق الأوَّل، وانتظرنا الأوتوبيس الذي سيقلُّنا إلى مدينة نيكّو NIKKO ، وهي مصيفُ مدينةِ طوكيو. كانَ الأوتوبيسُ، عندَ وصولِه، يُقلُّ عدداً من السيّاحِ الأمريكان من فنادقَ غيرَ فُندقِنَا، ذاهبينَ إلى نيكّو. وقد تقاضتْ الشركةُ من كلٍّ منهُم ومِنَّا مبلغْ ثلاثةَ عشرَ ألف ينّ، أي أربعين دولاراً أمريكيّاً.

أوصلتْنا السيّارةُ إلى محطَّةِ القِطارِ الحديديّ، وكُنَّا عشرون شخصاً بين رجلٍ وامرأة. وقد زوَّدَتْنا الشركةُ بفتاةٍ يابانيّة لتشرحَ لنا عنْ الأماكنِ والمعابدِ التي سنزورُها في نيكّو.

في تمامِ الساعةِ الثامنة والنصف، تحرَّكَ القطارُ بنا، ثمَّ انطلقَ يُسابقُ الريح. إنَّ الطريقَ من طوكيو حتى نيكّو هي سهلٌ فسيحٌ مترامي الأطراف. والمسافةُ 140 كيلومتراً. وعددُ سكّان مدينة نيكّو 33ألف نسمة. وابتدأنا نرى عن اليمينِ واليسار، في تلكَ السهولِ المنبسطة، آلافاً من المنازلِ اليابانيّة المبنيّةِ من الخشبّ،  وسقوفها من القرميد، وهي ملتصقةٌ بعضُها بجانب بعض، ولا تتعدّى الطابقين. وشاهدنا غاباتٍ مترامية في هذه السهولِ العجيبة لا مثيلَ لروعَتِها وتناسقِ أشجارِها الخضراء. وحاولتُ، جهدَ استطاعتي، أن أرى أشخاصاً بالقربِ من البيوت، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، فلم أُفلح. وطوالَ الرحلة التي استغرقتْ ساعتين، لم أشاهِدْ، في عشرات الألوف من تلكَ المنازل المتلاصقة، أكثرَ من عشرةِ أشخاص. والسببُ هو انصراف الجميع إلى أعمالهم. وأخيراً، وصلنا إلى مدينة نيكّو، بعدَ سيرِ ساعتين. وكان أوَّلُ مكانٍ وقفتْ فيه السيّارةُ أمام معبدِ فيتارازان FUTAARASAN SHRINE.

وقد طُلبَ منّا أن نخلعَ أحذيتنا وندخلَ إلى المعبد، ففعلنا، وجلسنا على الأرض لنشاهدَ فتاتين تقفان أمامَ تمثالِ بوذا.

وقُرعَ طبلٌ دويُّه عظيمٌ، تلاه مزمارُ ملأَ بأنغامِه أرجاءَ الهيكل. وكان قارعُ الطبلِ كاهناً بوذيّاً، وكذلكَ صاحب المزمار. وكانت صبيَّة بوذيَّة تقرعُ بكلتا يديها صنجين نحاسيّين. وعلى أنغامِ هذه الآلاتِ الثلاثيّة، أخذتْ الفتاتان ترقصان رقصاً دينيّاً عجيباً. فتارةً تُمسكُ كلٌّ منهما سيفاً بتَّاراً، وتؤدّي بواسطتِهِ حركاتٍ لا أعجبَ ولا أغربَ منها؛ وطوراً تتناولُ إحداهُما قضيباً نحاسيّاً عُلِّقتْ فيه عشراتُ الأجراس الصغيرة، كلٌّ منها يُصدرُ نغمةً تختلفُ عن نغمةِ الجرس الآخر. ودويُّ الطبلِ الغريبِ مع المزمارِ والصنجِ تُوجّهُ الراقصتين لأداءِ رقصِهِما البالغ الغرابة. واستمرّتْ هذه الصلاةُ البوذيَّة حوالي ربعَ الساعة، والجميعُ عيونُهم شاخصةٌ إلى ما يشاهدونَه. أمّا أنا فقد شعرتُ بحزنٍ عميقٍ يتملّكُني ، ويُسيطرُ عليّ سيطرةً تامّة. فهل بالطبلِ والمزمار يدعو المرءُ خالقَه؟! وهل بالصنوج تفتحُ السماءُ كُواها؟! وهل بالرقص وتحريك السيف تهبطُ النِعَمُ الإلهيّة؟!

إنَّ المرءَ يستطيعُ أن يتوجَّهَ بقلبِهِ إلى الله جلَّتْ قُدرتُه، فيسمعُ الله صلاتَه، سواءً أكانَ هذا المرءُ في الطريقِ أمْ في المنزل، أم في سيّارة أم طائرة. إنَّ بوذا العظيمَ الذي كان وليّاً للعهدِ تركَ زوجتَه الشابّة، وتركَ أُبَّهةَ المُلك، والثروةَ الطائلةَ، واعتزلَ العالم، لأنَّه أيقنَ أنَّ مجدَ هذا العالمِ ليسَ إلاَّ وهماً باطلاً وظِلاًّ حائلاً. ومع أنَّ بوذا سبقَ المسيحَ بستمائةِ عام، فإنَّ ذِكرَه ما يزالُ قائماً، ومعابدُهُ وتماثيلُهُ تملأُ بلادَ سيام، واليابان، وما ذلك إلاّ لأنَّه انتصرَ على المادَّة، وسحقَ الشهوة، وقهرَ نفسَه فتغلَّبَ على رغباتِ الجسدِ الحقيرة. لهذا السببِ تأسَّستْ الديانةُ البوذيّة، ولهذا السببِ تبعَهُ الملايين والبلايين من الخلائق في خلالِ هذه الـ2500عام.

وكذلك غاندي ما كانت لتتبَعَه لو لم يُقهِرْ جسدُهُ ويتغلَّبْ على ميولِه، ويفضِّلُ العالم الآخر على عالمنا المادّي الحقير. وينطبقُ هذا القولُ على السيد المسيح. فما كان للدين المسيحي أن ينتصرَ وينتشرَ لو لم يتغلّبْ السيدُ المسيح على رغباتِ الجسدِ ويدسُها بقدميه بقوّةٍ وجبروت.

فالناسُ يعلمون أنَّهم لا يستطيعون قهرَ ميولِهِم ورغباتِهم المتأجّجة بين ضلوعِهم. وعندما يجدون رجلاً استطاعَ ذلك يوقنون، إذ ذاك، أنَّه من غير طينتِهم ما دام قد استطاعَ سحقَ رغباتِه. فيتبعونه، وهكذا أولادُهم، وأولاد أولادِهم، ويبقى ذكرُه خالداً يتناقلُه الخلفُ عن السلف. إنَّ بوذا لم يأمر بقرعِ الطبول ونفخِ المزامير وضربِ الصنوج، ولم يُوصِ بالرقصِ في معابده. ولكنَّهم رجالُ الدين البوذيُّون هم مَن ابتكروا هذه المراسيمَ التي لا تمتُّ للدين بأيِّ سبب. خرجتُ من المعبدِ وأنا حزينٌ من هذه المظاهرِ الوثنيّةِ التي شاهدتُها في معبدِ بوذا العظيم.