info@daheshism.com
قصص حبّ جميلة,   جمال الحبّ الطاهر وطهارة علاقاته:

 

ذكريات الماضي

 

في هذا المكان نفسه، وقبل سنين طويت، وعلى هذا المقعد الورديّ اللون، جلست الصبيةُ التي اخترتُها حبيبةً لي!...

إلى هذا الرسم الزيتّي المعلق فوق رأسي، كانت تطيل النظر بعينين جميلتين فتاكتين!... وعلى هذه الخدّيدة الريشية، أسندت رأسها الصغير بدلالٍ وغنج، ففتنتني... وهاجت منّي الشعور!... ومن هذه الكأس المذهبة التي ما زلتُ أحتفظ بها، رشفتُ قطراتٍ مُسكرة تحويها في داخلها، فسبحتُ في عالم الرؤى والخيال!... كلُّ ما ذكرتُ... مضى بمضيّ السنين المتوارية ! وقد لا يعود!...

 

إن الذكريات كل ما تبقى لي، من سعادة تلك الأيام الموغلة في الهروب... إنها أحلامٌ عذاب! وكلُّ ما فيها مُستطاب!... أما اليوم، فلقد حلقت المرأة التي أحبها قلبي، بعيدةً عني... إلى مكانٍ ناءٍ في بطون القرون والأجيال!... هناك... حيثُ لا تكون أجسامٌ كأجسامنا المقيدين بها إلى الآن! إني ما زلتُ أرى آثار أنامل الفتاة التي عبدتُها بالأمس، ولا أزال أعبدُ ذكراها، ظاهرةً بوضوح، على بعض الأثاث المبعثر في أنحاء الغرفة التي كانت لا تحبُّ الجلوس إلا فيها، والباقي كما هو! وكما سيبقى ابدًا... حتى... وعطرُ أنفاسها المسكرة، ما برحت تعطّر جوّ الغرفة الصغيرة التي ما زلتُ أجلس فيها حتى اليوم! وما زالت أذناي تشعران بوقع نغمات صوتها المحيي فيهما!

فتعاودهما نشوة...  وصبوةُ حنين... إلى تلك الأيام الغابرة العابرة!... ولكن أوَّاه!... فإنَّ (المرأة) التي كنتُ أحنُّ إليها، وأحيا بها، ولها، خلفتني وحيدًا، وذهبت عني بعيدًا!!... إذ ذهبت إلى مكان قصي!، عامر بالأشباح والطيوف الهيوليَّة الغير المرئية!... ومن هناك، تنظر إلى ما أنا فيه الآن من بؤسٍ نازل، وحزنٍ قاتلّ فتحزن لحزني، وترثي لحالتي التي أوصلتني إليها مغادرتها إيِّاي وحيدًا، فريدًا!!... إن أكن قد بتُ وحيدًا...

ولكن روحها الغير المنظورة تقويني، وتهديني... فتعزّيني!!..

ولا من يستطيع إقصاءَ شبحها الماثل دومًا أمام مخيلتي!...

إذ كل يوم!... وفي ظلمة الليل الحالكة، أتمثلها أمامي معيدًا ذكرى الماضي الآفل... إلى أن يرسل الفجر أولَ خيطٍ من خيوطه النورية!...

وبعدها تتلاشى ذكرياتي السارة، المُحزنة!!... وأبقى هكذا...

إلى أن يحل الظلامُ الدامس! فأعود إلى ما كنتُ عليه من ذكرى لها، وتأمُّل بها، وعشق خفيٍّ، مكين، متأجج في داخل جوانحي... إلى مليكتي الحسناء الجميلة! ها هو رسمها لا يزال معلقًا في مكانه! لم تمتدَّ يد إليه كي تغير وضعه! وما فتئت كل صباح ومساء... أقبله! كما اعتدت تقبيلها عندما كانت تحيا في الماضي!... والصندوق العاجيُّ الصغير، ما زال محتفظًا برسائلها الغراميَّة التي كانت ترسلها... وقطعةُ ثوبها الحريريّ الأسود، ما زلتُ أحتفظ بها مع رسائلها المعطرة بالعنبر القويّ الرائحة! كلُّ هذه الأشياء من مخلفاتها المقدّسةّ!... إذ أركع بجانبها كلَّ مساء، وأفضّ كلَّ رسالةٍ على حدة، متصفحًا  ما كانت قريحتها، وقلبها الفيَّاض... يوحيان إليها بالكتابة لي إذ ذاك!... وأبقى على هذه الحالة... إلى أن يرسل الفجر أول خيطٍ من خيوطه النوارنية فأسرع بفتح النافذة ليدخل الهواء، ويحمل معهُ كل ما خلفتهُ لي... ليأخذه بدوره إلى حيث تقطن معبودتي!... وفي المساء، وعلى أجنحة الليل القاتمة، تعيد لي الصبية الساحرة ما كنتُ قد أرسلته إليها في الصباح، فأعيد الكرة للمرة الثانية!... وهكذا على مدار الأيَّام!!... إنَّ الفتاة التي تمكَّن حبُّها مني تشابه النساءَ اللائي علقت بهنّ قلوبُكُم أيُّها الفتيان!...

هي مخلوقةٌ ساحرة! أفرغ الله حكمتهُ في سبكها، فجاءت على الوجه الأكمل!... لقد صنعتها الآلهة متضاربة في العواطف والميول: فهي وديعةٌ للدرجة القصوى، شرسةٌ في ساعات غضبها، كذئبةٍ جائعةّ!... متقلبة كالأفعى الرقطاء!.

مختالةٌ كالطاووس الجميل الريش!... بيضاءُ كالزنبقة النقية!... وكحلكة الليلة الدامسة. خصيلاتُ شعرها المنشور على كتفيها!... هذه هي المرأة التي أحبها قلبي! وهي تشابهُ من أحببتم!...

***

مضت أعوامٌ من يوم عرفتُها إلى الساعة هذه! وكنتُ إذ ذاك فتًى غصًّ الإهاب، وكانت في سني.

فكنا نسابق بعضنا بعضًا في الرياض والمروج! بين الأزهار والأعشاب الخضراء النابتة في حقول تبعث في النفس ارتياحًا! وكان الزمن يطوي الأيام في أحشائه، إلى ساعة أصبحتُ فيها شابًا، وأصبحت هي صبية! عند ذاك، أزالت المعرفةُ نقاب الجهل عن أعيننا!... فعرفنا، وشعرنا!... ومن تلك الساعة أصبحتُ أرى وجهها الملائكيّ مطلاً عليَّ من وراءِ الغيوم البيضاء السابحة في صفحة السماء! ولكم بأحلامي، في ظلمات الليالي، كنتُ أراها! وفي الصباح لم يكن ليمرَّ أمام مخيلتي سوى شبحها اللطيف ولكم أسكرتني نغمات صوتها العذب! وإن يكن في الخيال الذي كنتُ أسبح فيه دومًا!...

***

مضت الأيام، فانقضى عهد الشباب، وحلت الرجولةُ الكاملة.

وعند ذاك، كنتُ أقترب من المكان الذي كانت تجلس فيه، وأحدثها عما أتمناه من بقائها معي أبدًا، وأبثُّها أوجاع قلبي الذي يفيض بالحبّ لها!... وكانت تجيبُني: بأنها تحملُ ما أحمل، وبها ما بي!...

فأطمئنّ، وتزول غيوم اليأس عني إذ ذاك. ولكنَّ منجلَ (الموت) لم يُمهل سعادتنا! بل أسرع فحصد بقسوته المعروفة روح محبوبتي ومعبودتي!... فهصر غصنها الأخضر الناضر! وكأنَّها... ما وُجدت في السابق!...

***

 

إنَّ كل ما ذكرتُ كان بالأمسر فقط!...

والأمس حلمٌ جميل!

لا يعود، ولن يعود!

ولن ترجع لي معبودتي!...

ولن أراها بعد الساعة!...

فوالَهَفي!... وبالشدَّة بُؤسي!...

مهما طالتِ الأيام،

ومهما أوغلتِ الأعوام مبتعدةً عنّي،

مخلفةً لي الذكرى المريرة،

ومهما طُويت القرون،

ومهما كان وما سيكون،

فلن أنسى تلك الصبية

التي كانت أوَّلَ من أشعرني السعادة،

وعلمني معنى الحبّ الطاهر، السّامي، العذريّ...

الذي لا تشوبهُ شائبة.

فإليك - إلى المكان الذي تسبح روحك فيه الآن –

هذه الكلمات!

يا أيَّتُها (الرُّوح) الطاهرة،

الخالعةُ عنك ثوبَ المادَّة الفاني،

المتسربلة بالحلَّة الروحيَّة الخالدة،

وإلى أنْ تحين ساعتي الأخيرة

التي أستطيع فيها لقياك!!...

                                        القدس 1933