info@daheshism.com
رجال الدين: 

 

الاب أنطوان والشيطان

 

كان الأب (أنطون) الكليّ الاحترام والقداسة

متعمّقًا في الأمور (اللاهوتية)،

متصفحًا كل ما جاء في الكتب (السماوية)،

عارفًا ما هي الخطيئة (المميتة)، والخطيئة (البسيطة)،

دارسًا أنواعَ عذاب (المطهر)، و(الجحيم)، و(النعيم).

وكان ينتقل بين قرى (فلسطين)

داخلاً منازل المؤمنين

ليعظَهم ويرجعهم عن الطريق المعوَجّ،

ويهديَهم سواءَ السبيل.

وكانت البيوت تُفتح لهُ،

وتستقبلُه المؤمنات أحسنَ استقبال،

وتقدِّم لهُ اللفافات (السجائر) الفاخرة،

مع القهوة (العربية) الأصلية.

وكنتَ تراهُ ينفث الدُخانّ (التركيَّ) الطيّب الرائحة،

ما بين الفترة التي تنقضي

بين جَرعِهِ وجَرْعةً من القهوة المضمَّخة.

 

 

هذه القطعة مقتبسة عن جبران خليل جبران

 

 

 

 

وكم من القطع الذهبية، الوهاجة، الرنانة،

تسربت إلى كيس هذا (الأب) المحترم الجليل،

بعدأن ابتاع بها أحد المؤمنين عظاته وصلواته

التي كان لا يبخل بها لمن زاد له من تلك القطع

التي كان مدلَّها بحبها للدرجة القصوى!

وكم من الثمار الناضجة الشهية

كانت تدخل الى جوفهِ الكبير،

وهو يتخلل بساتين الذين كان يعظهم،

بينما كان ماؤها ينزلُ على شاربيه ولحيته المتهدّلة،

من وفرة ما كان يضع منها في فمه!

وكان يُخرجُ من طيَّات قميصهِ منديلاً أحمر،

يمسحُ بهِ شاربَهُ الطويل،

ولحيتَهُ المتدلّية ذاتَ (الشُعيراتِ) المتطايرة.

ففي مساءِ أحد ايام سنة 1931

كان الأب (أنطون) في مكانٍ ناءٍ

ذاهبًا نحو قريةٍ موغلة في البعد،

وهو منفردٌ بين تلك الجبال ومنحدراتها،

وإذا بهِ فجأةً يطرق أذنيه أنينُ مؤلمٍ موجع!

فالتفت إلى الجهات الأربع،

فتراءى لهُ رجلٌ عاري الجسم،

والدماء تتدفق من جراحهِ الكثيرة،

وكان يستنجدُ بهِ قائلاً:

- أنقذني بربّكَ ولا تدعني! فها إنك ترى

(جراحي) الدامية التي أصابني بها الأشقياء!...

فاستوقف هذا المنظرُ (الأب) أنطوان المتديِّن!

وردَّد بأعماق نفسه:

- لا شكّ أنّ هذا لصّ وقاطع طريق،

وهو، كما يُخيَّل لي، أراد سلب أحد عابري السبيل

فغُلب على أمره، ولا أظنُّ أن الحياة تمهلهُ، فتبقى عليه، وسيقضي في الحال،

وأُتهم أنا بهِ، إذ لا يوجد أحدٌ بقربه سواي!...

قال هذا... وهمَّ بمغادرتهِ ليقضي بمفرده!

وعندئذ أوقفهُ (الجريح) قائلاً لهُ:

"إياكَ وتركي... فإنك تعرفني معرفةً تامة،

كما أني أعرفك كل المعرفة أيها (الأب) المقدس!"

فتمتمَ (الخوري) كلماتٍ لم تُخرجْها شفتاه،

بينما كان يرتعش كورقةٍ في مهبّ الرياح الشديدة:

لا شكَّ أن شبح (الموت) الماثل له

يجعله ينطق بهذه الكلمات.

وإلاَّ مِن أين لهُ معرفتي،

ولم يكتحل له نظرٌ بمرآي قبل اليوم؟!

وللمرَّة (الثانية) حاولَ أن يتركَهُ وينصرف،

فصاح بهِ المثخنُ بجراحهِ البالغة:

- إقتربِ، ولا تبتعد أيُّها المحترم!

فأنا وأنتَ اصدقاء منذ القِدَم!

أنا لستُ كما تفكر في أعماقك...

كلا!... لستُ بلصٍّ، بل إني وليُّ نِعمتِك!

ولولاي لما كان لك رزقٌ ايها الأبلة!...

تقدم بوجهك منّي... لأُسِرَّ في أذنِكَ مَنْ أنا.

وانحنى (الكاهن) مِن المنازِع الجريح، وتفرَّس فيه؛

فرأى وجههُ من ناحيته اليُمنى جميلاً كلَّ الجمال،

بينما الجهة اليُسرى لا تقوى العين على إطالة النظر إليها لشدة قبحها المتناهي!

فتراجع إلى الوراء صائحًا مذعورًا:

  • ويلك مَنْ تكون؟!...

أخبرني (الحقيقة) وإلا فإني مُغادرك!

فأجابه الجريح:

  •  لا تخف ايها (الأب) المقدس!

إذ نحنُ أصدقاء، منذ زمن طويل، وطويل جدًا.

دعْني أستعن بك على القيام،

واذهب بي بعيدًا عن هذا المكان،

واغسل لي جراحي التي أُصِبت بها،

ومن ثمَّ أتكلَّم معك بكلّ صراحة،

وأخُبرك عن (حقيقة) أمري

الذي أصبحتَ متشوقًا إلى معرفته:

فزمجرَ الأب قائلاً:

  • أخبرني (حقيقتك) يا هذا،

فإني لا أطيقُ صبرًا بعد الآن،

فأجابه الجريح وهو يحتضر:

  • إنك تعلمُ من أنا... وإذا كنتَ لا تعلمُ حقًّا،

فإنّ الذكاءَ لا شك قد فارقك، وعهدي بك غيرُ ذلك.

فقد شاهدتَ وجهي هذا آلافًا من الأمرار!

لا بل، ذكرتَ اسمي مئاتِ الآلاف مِنَ المرار!...

حتى... وفي هذا اليوم ذكرتني، فكيف بك الآن، بعد رؤيتي، تدَّعي نسياني؟!

فصاح (الخوري) قائلاً:

  • كلاّ، إنّي لم أرَ وجهك بكلّ حياتي...

فإذا لم تخبرني بحقيقتك فإنّي أُغادرك

كي ينتزعَع شبحُ (الموت) روحك بِمنجَله الحاصد.

فأجابه الرجل (الجريح) وهو يبتسم ابتسامةً عريضة

انفرجت عن أسنانٍ بيضاء ناصعة، ولِثةٍ مرمريَّةٍ واسعة،

وبصوتٍ جمع فيهِ كل الهدوءِ،

وبنبراتٍ مُتزنةٍ متناسقة، قال لهُ:

  • نزولاً على إرادتِك (المقدَّسة)،

أُعلمك بأنني أنا هُو "الشيطان"!!!...

فردّدتِ الأودية صدى (الصَّرخة)

التي أخرجها الأب المقدَّس،

بعد أن عرف مَنْ هو (المستلقي) أمامه.

وحَدَّق فيهِ النظر فإذا بتقاطيعه تنطبق على هيئة (الأبالسة) التي طالما رآها على جدران الكنائس!
وللمرّة الثانية، صرخ بصوتٍ تجاوبت صداهُ الأودية قائلاً له:

  • لتكن ملعونًا إلى أبد الآبدين، أيها اللعين!

والفاسقُ الزنيم! ألا لُعنتَ من (الأزل) وإلى (الأبد)!

فأجاب إبليس، والابتسامة ما زالت تكلِّل ثغرَه:

  • لقد تسرعتَ جدًا يا أيُّها الأبُ الفاضل!

فأرجو أن لا تطيل الوقت بالكلام الفارغ كالنساء.

بل، كما طلبتُ منك سابقًا،

أرجو أن تقوم بتضميد جروحي

قبل أن تخرج روحي؛

وبعد ذلك لا أمَلَ ولا رجاء!...

فأجابهُ (الخوري) بتحمُّس ظاهر:

  • إنَّ أصابعي التي ترفعُ في كلّ يوم

الذبيحة (الإلهية) المقدسة

لن تمتدَّ لتضميد جراح (جسدك) النجس،

ايها الكافر المطرود من (الله) إلى الأبد!...

فأجابه إبليس:

  • حقًا لم أرَ في كل حياتي أحمق منك أيها الفاضل!

فإياك أن تغير معتقدي

من ناحية ذكائك المرسوم فوق جبينك!

ولكن... دعني أولاً أُخبرك

كيف أصبتُ بالجراح التي تراها.

وبعدئذٍ أكمل حديثي من ناحية (ذكائك) أو عدمِه.

فاعلم بأنني كنتُ اليوم

أتجول (وحيدًا) في هذه الجهة النائية،

ولمَّا بلغتُ هذه النقطة التي تقف فيها الآن،

التقيتُ بطغمةٍ من (الملائكة) الذين أكنّ لهمُ العداء المكين،

مثلما يكنُّونهُ لي.

ولمَّا كانوا (طغمةً) كثيرة العدد، تجرّأُوا فهجموا عليَّ

مجتمعين متكاتفين، وإلاَّ لما استطاعوا أن يُثخنوني

بالجراح التي تراها في جسدي،

وما كنتُ لأهتمَّ بهم مطلقًا،

لولا من يدعونهُ بـ"ميخائيل"،

إذ كان (مسلحًا) بسيفٍ من لهيب ذي حدَّين!

سَلَّطهُ عليَّ ففتك بي فتكًا ذريعًا.

فسقطتُ (أرضًا)، مدّعيًا النزع، فالموت...

وإلا لما أبقاني حيًّا لو عَلِمَ بأنني قد نجوت!

فماذا يفعلُ (واحدٌ) أعزل أمام طغمةٍ، رهيبة، مسلَّحة؟ ففاضت أشعةُ الفرح والسرور من عيني الأب المستمع لِمَا يقصُّه عليهِ إبليس،

وقال ورنَّهُ النصر تعلو صوتَهُ:

  • ليكن مباركًا اسمك يا (ميخائيل) إلى الأبد!

فقد أنقذتَ (الإنسانية) المعذّبة من مكر هذا اللعين الخائن.

فلتكن مشمولاً بالعناية (الإلهية) إلى أبد الدّهور!...

فأجابه إبليس:

  • حقًا إنك لأحمق!... وحمقكَ ظاهرٌ جليّ!...

فعدائي (للإنسانيّة)

ليس أشدّ من عدائك لنفسك يا أحمقَ خلق الله!

والدليلُ الظاهر هو مباركتُك لميخائيل،

مع العلم أنهُ لم يُفدك بأيّ أمر!

وتلعنني!.. مع العلم أنّ النعَم التي حصلتَ عليها

وستحصل على غيرها كانت كلُّها منّي، وبسببي!

حتى... وهذه الخمسون قطعة (الذهبية)

التي يحويها حزامُك المطوّق لخَصْرك،

أَوَلَمْ تَخُزْ  عليها باسمي يا أيُّها الفاضلُ الجليل!؟

حقًا، إنك لجاحدٌ ما أسبغ اسمي عليك من النعم الفائضة،

وبدوني لا عيش لك ولا حياة!

أخبرني الآن: ألم تتخذ (وجودي) صناعةً رائجةً لك؟

واسمي الم تجعلهُ أساسًا لكل عملٍ تقومُ به،

وكل كلمةٍ تخرج من بين شفتيك؟!

وهل ثروتك التي طمرتها في حديق منزلك

أتتك عن غير طريقي؟...

أيُّها الكافرُ بنعمتي،

والمتناسي ما لأياديَّ البيضاء عليك!...

ثم... أناس أن زوجتك، وأطفالك،

وهم كثيرون، يفقدون كل رزقهم إذا فُقدت؟!

لا بل يتضورون جوعًا، فيُقضى عليهم بعد ذلك؟!

لقد خبرتك ذكيًّا،

وإذا بك جمرة مطفأة، ورمادٌ خاب!!...

إذن، أخبرني، ماذا تكون حالتك

لو حَكَم (القدرُ) باضمحلالي؟

وعندئذٍ أيَّة صناعةٍ تتمكن من اتخاذها

لو خرجت الآن (روحي) من (جسدي)؟!...

منذ ثلاثين سنةً، وأنت تتجول في المدُن والقرى،

وتحذّر الناس من مكائدي وأشراكي،

وهم ينقدونك من هذا الأصفر الرنَّان،

وأحسنَ ما تأتيهم بهِ حقولُهم وأراضيهم.

فأيُّ شيء يبتاعونهُ منك،

إذا انطلقت (روحي) إلى غير (رجعة)،

وبعد أن يتأكد لهم أن عدوهم المبين (الشيطان) قد ذهب، وذهابهُ بغير إياب،

وقد أصبحوا في طمأنينة ومأمنٍ من حبائله المتعددة؟!

أخبرني أيها الفاضل!...

الا تعلم وأنت الرجل الدينيُّ المتعمق في دراسة السماويات،

أنَّ وجود (الشيطان) قد أوجد أعداءَهُ رجال الدين،

ذوي الذقون المفروشة على الصدور!؟...

وأنّ هذه العداوة المتأصّلة...

هي السبب الذي ينتقل بواسطتها الذّهب، والفضة،

مِن أكياس المؤمنين إلى جيوب رجال الدين!؟...

ثمَّ، ألا تعلم، وأنت الذكي الفطن،

أنهُ اذا زال (المسبب)، يزول (السببُ) أيضًا؟

أو بعد كل هذا... ترضى بموتي؟

وبموتي ينته كل شيء،

وتفقد منزلتك التي يحفظها لك (البسطاء)،

من الرجال والنساء،

فينقطع رزقك ورزق أولادك،

وأنت لا تريد لهم، ولك... كل ذلك؟!

وصَمَتَ (الشيطانُ) مدّةً قصيرة!...

ومن ثمَّ... استطرد، وقد تبدَّلت ملامح وجههِ،

وقال بعد أن كاد يمثل دور الاستعطاف، بلهجة الاستقلال:

  • اسمع أيُها الثخين العقل، ويا فارغهُ،

لأُريَكَ (الحقيقة) التي تضمُّ (كياننا)،

وتربطنا (برباطٍ) لا انفصام لعُراهُ مطلقًا!...

إنَّ اسمي (مِحوَر) لدوائر اللاهوت،

والدّين، والفلسفة العميقة:

فالكنائس، والمعابد الفخمة... لم تقُم لولاي!

والمعاهد، والكليات، والجامعات لم تُبْنَ لولا وجودي أيضًا! والصروح الفخمة، والقصور العظيمة لولاي لما شيِّدت، فأنا (الهدف) الذي يولدُ كل (العزم) في كل من بني البشر!

أنا (إبليس) الأزلي، السرمدي!

نعم!

أنا هو  (الشيطان) الذي يحاربه كل من بني البشر:

في الماضي!

والآن،

وفي المستقبل،

وإلى الأبد!...

وهُم ما فتئوا يحاربونني،

سيبقون على هذا...

فلو كفوا عن منازلتي،

لتطرق الخمول إليهم وأمات افكارهم!...

أنا هو (العاصفة) الهوجاء،

المقتلعة لكل ما يمرُّ بطريقها!...

إنني أتلاعبُ بعقول الرجال،

وأسري بمكامن النساء الخفية

وأجرفُ ميولهم إلى (الأديرة) و(الصوامع)،

لكي يعبدوا (الله) لخوفهم مني!...

ومنازل (البغاء) والخلاعة، لم توجدا لولاي!

إذْ باستسلامهم لما أُريد

يفرحونني بتنفيذهم مشيئتي التي أُريدها منهم!...

فاعلمْ أيُّها المحترم،

أنّ (الراهب) الكاذب الذي يقضي الليلَ ساهرًا مصليًا،

حتى ينبلج الفجر، كي لا أقترب من مضجعه

هو (كالمومسة) الفاجرة التي (تناديني)

كي لا أبتعدعن مرقدها!...

(فهذا) يبيعُ (دنياهُ) ليشتريَ (آخرتَه)!

(وهذه) تبيع (آخرتها) لتشتريَ (دُنياها)!...

وأنا السبب لكل ذلك! نعم!... أنا السبب!

لكل الموبقات، والشرور، والبلايا، والرزايا!

والمِحن، والإحن، والغشّ، والخداع، والسرقة!

والقتل، والغيلة، والزنى، والفجور والنميمة والافتراء...

ولكل ما يُشتمُّ منهُ رائحة (الشرّ الفادح).
فإذا زال كياني الموجود!

زال الخوف واللذّة أيضًا من (العالم)!

وإذا زالا،

فاعلم أن الميول والأماني تضمحلُّ أيضًا ولا تعود،

فتصبح (الحياة) خالية، مقفرة، باردة، لا تُستطاب،

        وكأنها (القيثارة) المقطعة الأوتار، المحطمة الجوانب...   

        نعم!...

أنا هو (الشيطان) الأبدي! الأزليّ! السرمديّ!...

فإذا (انقرضتْ) عناصرُ الرياء، والكذب، والختل،

والغش، والخداع، وغيرها من (العناصر) التي ذكرتها لك، أصبحت (الهيئة البشرية)

كحديقةٍ غناء، مهجورة، منذ زمنٍ طويل، لا تنبت فيها سوى أشواك (الفضيلة) فقط! فأنا هو! أبو كل (رذيلةٍ) وموبقة!

فإذا زالت (الرذيلة) من (الأرض)

زالت (الخطيئة) وزال (المحاربون) لها!

فتزول أنتَ!

ويزول ابناؤك، وأحفادكَ وزملاؤك!

وكلُّ من لهُ (لحية) تفترش صدرهُ العريض، وذراعَيهِ المفتولَين ممّن يمتُّون لك بالصناعة:

صناعةِ الغشّ والتدليس!...

فهل تريد، ايها المحترم، أن تزول (الخطيئةُ) بزوالي؟

أخبرني!...

هل تريدُ أن (تُميتَ) الحركة البشرية بايقاف حركة قلبي؟

هل تريد أن تمحو (السبب) لمَحْو (المسبّبات)؟

- أنا هو (المسبّب) لكلّ ذلك!!

فهل تريد أن (أموت) في هذا القفر الخالي؟!...

أجبني يا دارس (أسرار) الدين، والمتعمق فيه!

أتريد أن تنتهي (العلاقة) التي وُجدتْ منذ (الأزل) فيما بيننا؟!...

وقال إبليس متابعًا:

  • لقد أتعبني الكلامُ الذي ألقيتُهُ عليك!

وكان الأجدرُ بي أن لا أُطيلَه،

وأنت (اللاهوتيّ) الضليع!

والغريب أنك استمتعت بشغفٍ

إلى كل ما كنتُ ألقيه عليك

مع العلم أنك (أدرى) بهذه الحقيقة) مني!

والآن، فلَكَ الخيار:

إما أن تحملني على (ظهرك!)

وتذهب بي إلى حيث منزلك،

وبمساعدة رجال (الدين) زملائك

تغسلون لي جراحي وتطهروها،

وإمَّا أن تتركني في (مكاني) هذا

كي أدخلَ دورَ (النزع) وأموت،

فتزول هيبتك ولا يعود أحد ليهتمَّ بك!

أو يملأ جيوبك بالأصفر الرنان.

فافعل ما تشاء بعد معرفتك هذه (الحقيقة)!!...

                                        ***

وما انتهى (الشيطان) من آخر كلمة

حتى قال الخوري انطون، وهو يرتعش،

والحيرة ظاهرة جليَّة في أسارير وجهه،

وفي تجعدات جبينه العريض:

  • ها قد عرفتُ الآن ما لم أكن لأعرفهُ قبل دقائق معدودات فسامح (الغباوة) التي أظهرتُها لك،

ولا تقسُ عليّ بكلماتٍ أخرى غير التي فُهْت لي بها.

فكفاني ما تحملتُهُ من (جهلي)

هذه الحقيقة الناصعة، الجلية الواضحة!

وكفاك تقريعًا لي!!...

إنني أتأكد بأنك لم توجد في هذا (العالم)

إلا (لتجرب) البشر.

و(التجربة) هي مقياس يعرف (الله ) بواسطته

قدر النفوس البشرية.

بل هي (حقيقة) لا تقبل (الشك).

فما أنت إلا (ميزان) يستخدمه (الله) عز وجل

لكي يعرف بواسطتك الأرواح (الصالحة) من (الطالحة)!

        وإنني متأكدٌ ايضًا

بأنك لو (مُتّ) لماتت البشرية!

ولزالت القوة(المعنوية) الحائز عليها كل من البشر!

ولا يعودون ليهتموا بالعبادة والصلاة!

و(الموجد) يريد منهم غير ذلك!

نعم يجب أن (تحيا)!

فلو (مُتَّ)، وعرف الناس هذه (الحقيقة)

لزال خوفهم من (الجحيم)،

إذ ليس من يسقطهم في أشراكك؛

فتزول العبادة،

ويعودون فيتمرغون في حَمْأة (الرذائل)،

معيدين عهد (سادوم، وعامورة!)

من أجل ذلك يجب أن (تحيا) أيها الشيطان)

لأن (حياتك) هي التي يتم بها

خلاص الجنس (البشري) من كل (موبقة) و(نقيصة)!

أمَّا أنا (الكاهن) التقيّ الورع

فيجب عليَّ أن (أُضحي) بكُرهي البالغ المكين لك

على مذبح حبّي اللامتناهي للجنس البشريّ المسكين!!...

... فرنَّت، بعد ذلك، ضحكةٌ أرسلها (الشيطانُ) الجريح

من أعماق أعماقه؛ ومن ثم قال:

  • لله دَرُّكَ من ذكيٍّ بارع!

فها قد أوجدْتَ لك (مخرجًا) من هذا (المأزق)

الذي كان يحتويك قبل ساعة...

تقول: بأنك ستضحّي بكرهكِ لي

على مذبح حبّك (اللامتناهي) للبشر

وليس لحبك (الأصفر الرنَّان)

الذي تأخذهُ من بعض أفراد البشر المغفلين المؤمنين بك...

فيا لك من (فيلسوفٍ ) ماكر!

ويا لعمق ما تكنُّهُ (أعماقك) من المعارف (السماوية)

التي كُشف لك السِّترُ عنها!

فها إنني أراك قد أوجدت

بقوة إدراكك الواسع (سببًا) لوجودي،

بعد أن أفهمتك ما ستصل إليه حالتك من ذلةٍ ومهانة،

بعد أن (يُقضى) عليّ،

وإلا لما ساعدتني على ضمد جراحي.

وإنَّ هذا (السبب) الذي أوجدتْهُ مخيلتك المضطربة!

لم أكن لأعرفهُ قبلاً رغم حكمتي البالغة!

والآن،

وبعد أن تأكد لكل منا وعرف

جيمع (الأسباب) الفلسفية واللاهوتية

التي (أوجدتنا) منذُ ابتداء (الكلمة)،

والتي كانت (السبب) لوجودنا

في هذه (الساعة) في هذا (المكان)،

فيجب أن تساعدني كي نغادر هذا القفر.

نعم، يجب أن نغادره في هذه (الدقيقة)،

فإنني أشعر (بروحي) تضطرب بداخلي...

تريد الانطلاق...

فهيًّا قبل فوات الوقت،

اقتربْ مني يا أخي، اقترب،

تعال، واحملني على ظهرك،

وأوصلني إلى ديرك،

فإنني لستُ بثقيل (الجسم) كما تتوهّم.

ورغمًا من ثقل (اسمي)،

سترى جسمي على نقيض ذلك!

أُنظر: ها إن (الليل) قد ابتدأ يتكاثف،

وبرودة (الليل) ابتدأت تخيّم،

فيشعر بها كل مفصلٍ من مفاصلي.

وها إن الدم ابتدأ (يتجمد) فوق جراحي.

فإياكَ والتأخير،

فتأتي (ساعةُ) الندم!...

فانتبه الأب (انطون)،

واقترب منهُ بعد سماعهِ لكلام الشيطان الرجيم،

خائفًا أن يُقضى عليه قبل أن يستطيع إيصاله،

فخلعَ (جبتهُ) ملقيًا بها إلى (الأرض)،

لكي لا يشعر بثقل ما يحمل،

ورفع قميصَهُ عن ذراعَيه،

وبهمِة الشباب رفعَ (إبليسَ) الرجيم فوق ظهره.

ومشى مترنّحَ الخطى ثقيلها،

نحو الطريق الموصلة الى (قصره) المنيف

المطلق عليه اسم (الدير)!

ذرًّا للرماد في العيون!...

***

هناك،

وبين تلك الأودية والشعاب،

وفي سكون الليل الهادئ،

الموشى بنقاب الظلمة الحالكة،

سارَ الأب (أنطون) نحو الجهة التي قام فيها (الدير)،

وهو ينوء تحت ثقل ما يحمل.

ومع ذلك كان سريع الخطوات

رغمَ السنين التي ألقت عليهِ بكلكلها.

وكان الناظر يَرى رجلاً قبيح المنظر، عاري الجسم،

مدلّيًا لسانَهُ سخريةً واستهزاءً بالذي يحملهُ،

بينما يقرع بذنَبهِ الطويل الأسود جنبي الأب الكلي الاحترام،

مستحثًا إياهُ على الإسراع في السير...

وبقي (الأب) سائرًا رغم حمله الثقيل)،

ورغم الدماء السائلة من كلوم (ابليس)،

ورغم القطرات التي كانت تسيل

على لحية الاب، وشاربيهِ الطويلين.

كلُّ ذلك في سبيل عدم فقد ما سيفقدهُ،

لو قُدّر وخرجت روح (الشيطان) اللعين

الذي يحملهُ فوق ظهرهِ،

ألا وهو: فقدان السلطة،

واعتقاد الذين يجزلون في العطاء لرجال الدين

وبفقدان (إبليس)،

لا يكون أيُّ بذلٍ أو عطاء!...

                                                        القدس، 6 تموز 1933