info@daheshism.com
التقمُّص "

 

أَنا

 

أَنا من أَنا؟ ومَنْ كنتُ في غابر الأزمانِ؟

 

هل كنتُ قطرةَ ماءٍ تجوب المحيطات دون استقرار أَو أَمان؟

أم كنتُ حبَّةَ رمل تتيه في الفيافي وتعتلي قِممَ الكثبانِ؟

أم كنتُ زهرةَ بيلسان، أم تُراني كنتُ زهرةً من أُقحوانِ؟

 

أم كنتُ شجرةَ تفَّاحٍ شهيَّة مغروسة في جنَّةِ الأَماني؟

أم كنتُ خمرةً معتَّقة تُصَبُّ في الأدنانِ؟

أم كنتُ عصفوراً غرِّيداً على باسق الأدواح بين الأَفنانِ؟

 

أم كنتُ طائراً صادحاً أَذوبُ وجداً من فرط الحنانِ؟

أم كنتُ نهراً متدفقاً ينساب ما بين سهلٍ ووعر حتى وفي الوديان؟

أم كنتُ صخراً أَصمَّ أَحيا بين الصخور باطمئنانِ؟

 

أم كنتُ من ذلك المعدن الوهَّاج الرنَّانِ؟

أم كنتُ حديداً صلباً أثقالُه بالأَطنانِ؟

أم كنتُ فضاءً رحيباً أُناجي النجومَ وأنظر إِليها بافتنانِ؟

 

أم تُراني كنتُ نجماً نَيِّراً أتألّقُ في سالف الزمانِ؟

أم كنتُ سماءً صافيةَ الأديم كعِقْدٍ من الجُمانِ؟

أم كنتُ ملاكاً وديعاً أُنشد نشيداً رائع المعانيِ؟

 

أم كنتُ شيطاناً لئيماً أزرع الفُسْق في قلوب الغواني؟

أم كنتُ نحلةً دقيقة تزور الورودَ في جنَّة الجنانِ؟

أم كنتُ فراشةً جميلة تحوم حول الغصون الدواني؟

 

أم كنتُ بنفسجةً حَييَّةً تتمنَّاها كواعبُ القيانِ؟

أم كنتُ نرجسةً فوّاحةً تتهافتُ عليها أسرابُ الحسانِ؟

أم كنتُ حديقةً ساحرة يرتادني فيها صاحب البستانيِ؟

 

أم كنتُ نسراً مجنَّحاً أُطلق لجناحي العنانِ؟
أم كنتُ سُلحفاةً بطيئةً تُسابق بسيرها مواكبَ الزمانِ؟
أم كنتُ دوحةً رائعة يأْتيها من كلِّ طائرٍ زوجانِ؟

 

أم كنتُ عقرباً كريهاً أَلذع الناسَ بهوانِ؟

أم كنتُ زجاجاً شفَّافاً هشَّمَتْه حوافر الغيلانِ؟

أم تُراني كنتُ سفَّاكَ دماءٍ، وقاطعَ طريق، وشرَّ زانِ؟

 

أم كنتُ لصاً عنيفاً بل شريك أَفَّاكٍ وجانِ؟

أم كنتُ مدينةً ضخمة أرتدَّ عن أَسوارها جيشانِ؟
أم كنتُ منارةً جبَّارةً تَهْدي السبيلَ للحَيْرانِ؟

 

أم كنتُ ريشةً تائهة في فضاءِ عالمنا الفاني؟

أم كنتُ جبَّاراً عنيداً وشمشونَ زماني؟

أم كنتُ قدّيساً بتولاً ونورُ الإيمان هداني؟

 

أم كنتُ عدَماً رهيباً فوهبني اللّهُ كياني؟

ويحَ قلبي!... أينَ أّصبحتُ الآن، وأينَ محطُّ أَماني؟

نعم، أنا من أ،ا، ومن كنتُ، واليوم هذا مكاني.

 

بيروت، في منزل الرسالة، مساءَ 14 أيّآر 1944