info@daheshism.com
قطع ذكر فيها أنبياء ومصلحين,  طوائف ومعتقدات:

 

أصيصُ الأزهّار وسَّلة القصَب

 

إنه الليل. في الغرفة الفسيحة المُعتمة، لخلوّها من النوافذ، إذا بعلبة قُبعات مصنوعة من خشب السنديان النفيس تجد نفسها جالسةً على سطح خزانة. إلى جانبها سلة قصب ثابتة مكينة كانت ما تزال مُستيقظة. فأخذت تهتف: "يا علبة القبعات، أنائمةٌ أنتِ؟ يبدو لي أنكِ لست في سُبات. فاسمعي، إذن، قصتي، فلا أحد يعرفها، وهي ستثيركِ.

       أتيتُ من بعيد، فعلى ضفاف النيل وُلِدْتُ؛ والقدرُ الذي ليس قط بأعمى جعلني أقوم برحلة إلى لبنان الحبيب. تُرى، ما غايتُه؟ وحده الله يعرفها... ولا تسقط شعره إلا بإذنه.

       وصلتُ هنا ملأى بالثمار، فاستقبلتُ بالابتهاج يومَ عيد جميل.

       غالبًا ما يتفاخر الناس بجدودهم، فيرسمون بزهوٍ، أشجار أسرهم وأصولهم. فيحمل كل غصنٍ اسمًا مختلفًا، بينما تتفرع الأغصان كلها من أرومة واحدة.

       فيا (علبة القبعات)، يا جارتي الصغيرة العزيزة، مهما ارتقيت في سحيق الأزمنة فلن تعرفي إلى أي زمنٍ قديم يرقى ماضي. إنه عريق سحيق. وسأخبركِ قصةً قديمة إنما معروفة، وهي مقتبسة من الكتاب المقدس، وتنطوي على أصل اللغز الذي أعرفه وحدي.

       لقد أصدر فرعون أمرًا لشعبه: "أن اطرحوا في النهر كل ولد ذكر يولدُ للعبرانيين ودعوا البنات جميعهن يحيين". وكان لأمرأة من بيت لاوي صبي في غاية الجمال، فخبأته طوال ثلاثة أشهر، ثم أخذت سلةً من القصب، وطلتها بالقار والقطران، وأودعتها الصبي بين القصب على ضفة النهر، ومكثت شقيقةُ الطفل في موضع ليس بالبعيد تراقب ما عساه يحدث.

       وإذا ابنةُ فرعون تنزل إلى النهار لتستحمّ، بينما تمضي رفيقاتها في نزهة على ضفافه. فترى الأميرة سلةً بين القصب، فتُرسل خادمتها لتأخذها، فتحملها إليها، فتفتحها الأميرة وتشاهد الطفل يبكي. فتُشفق عليه، قائلةً: "إنه عبراني، لكن ما أجمله!" وكأن وجودَه بعث الحيرة في نفسها.

       حينئذ ظهرت شقيقة الطفل وقالت للأميرة: "أتريدين أن أمضي فأُحضرَ لك مرضعًا من بين النساء العبرانيات لتُرضع الصبي؟"

       فأجابتها: "اذهبي".

       ومضت الصبية وأحضرت أم الولد. فقالت لها ابنةُ فرعون: "خُذي هذا الطفل، أرضعيه وأعطيكِ أجرَك".

       وأخذت المرأة الصبي وأرضعته. وعندما كَبُر، أتَتْ به إلى ابنة فرعون، فكان لها نظيرَ ابن. وسمته موسى، أي المُنقذ من المياه.

       تلك هي القصة التي لا بد منها كتمهيد لما أبوحُ به.

       كان موسى عظيمًا أمام الله، وكان رسوله. وُلِدَ في الأرض ليُحققَ أهداف السماء.

       ولكنه قبل أن يتجسَّد في هذه الدنيا، كان روحه النقي يُسبح الخالق في ملإ عُلوي، وكنتُ أنا ملاكً أُمجد الله بجانب النبيّ العظيم.

       وفُرض عليَّ أن أساعد في رسالته على الأرض. فسجدت طائعًا سعيدًا أمام الرب الأزلي، وباشرتُ فورًا العمل في مهمتي، فدخلت في مجدموعة من القصب كانت تنمو على ضفاف النيل، فقطعتها أُمُّ موسى وحبكتْ منها سلة. وحرستُهُ فوق المياه. وولدَ روحي عاطفةَ شفقة في قلب الأميرة، وأوحى لها بأن تربيه.

       ومكثتُ أنا في القصب نفسه، حتى إذا فُنِيَ، غادرته روحي وعادت إلى السماوات. لكن روحي، كأيِّ شيء في الوجود، تعود. وها أنذا أعود لأسكن القصب مجددًا، لأن رسالتي لم تنته بعد، وروحي، وإن تكن خفية على أنظار الناس، تشع على القصب. تُرى، أيعرفون من أين تأتيهم، أحيانًا، فكرةٌ سامية؟ ربما هم مدينون بها إلى هذه القصبات التي تحوي نفسي"

       وكانت (علبة القبعات) تُصغي، مشدوهة، للسلَّة. لله! أي سرٍّ هذا الذي باحت به! قالت إن اندرسنْ يعرفنا، فلشدة ما بحث، أصبح بوسعه اكتشاف النفوس في جميع الأشياء. لكنْ ثمة نفوس أبهى منا، نحن الأرواح المتواضعة، وبوداعة نعترف بذلك.

       كنتُ في سريري أُصغي، وقد جفاني النوم، وانحبست أنفاسي: "تُرى، أكان حلمًا؟" ترددتُ في التدخل بأسرار خطيرة عجيبة كهذه. لكن روحي لم تطاوعني. "سألتُك، أرجوك، قالت روحي للسلة، ما تعملين الآن بما أنكِ هنا؟ ألا يكون روح موسى النسيب الأقرب لنبي آخر؟"

       في هذه اللحظة حدثت حركة قوية في الغرفة... شخص ما كان يقرب سلمًا من الخزانة ثم يصعد عليه ويستولي على علبة القبعات التي ما أن أخذتها الرعشة حتى سقطت من سطح الخزانة على البلاط، دافعةً معها سلة القصب.

       وحدث إذ ذاك ضجيج عظيم: عاصفة ورعد وبرق. لقد كان الليل وعلى الجدار الأبيض تتعرّج ومضاتُ البروق. ثم ساد الصمت.

                                                10 كانون الأول 1944