info@daheshism.com
الحرية و الثورة ضد الظلم "

 

أسرعي أسرعي ايتها الباخرة بالرحيل

نداءُ المقيمين وتحدير إلى المهاجرين

                                                بقلم الدكتور داهش

أسرعي أسرعي أيتها الباخرة الماخرة،

وابتعدي عن هذا الشاطئ اللعين،

أسرعي أيتها الصديقة الصدوق، ودعينا نُشيح بأبصارنا ننبتعد بأنظارنا

عما يُرتكب في وطننا الحبيب من جرائم وفضائح.

أسرعي أيتها الجبّارة!... وأنقذينا من بين براثن هذه الطغمة (الوصوليَّة)

التي ضجت أبالسة الجحيم من ارتكاباتها المخزية.

أسرعي بربكِ قبل أن تفتك بنا أنيابُ هذه الوحوش

المترعة في دست الأحكام في غفلة من عين الدهر المراقبة.

أسرعي!.. فنحن هلكى،

وصدورنا قد حبلت بالحقد الدفين بعدما أسلمنا أمرنا للقضاة،

فحكموا لمصلحة الطغاة البغاة ضدَّ الأبرياء المهضومي الحقوق.

إيه أيتها الباخرة الحنون،

كم أنتِ رحيمةٌ بمن تقلِّينهم في جوفكِ

بعدما انتشلتهم من هوَّة الدمار وهول العاب والشنار.

إيه يا باخرة العطف والحنان،

كم أنتِ عطوفةٌ على من تقلّينهم بين  احشائكِ

فتنقذينهم من هلاك محقَّق

بعدما تبعدين بهم إلى شاطئ السلامة والاطمئنان

وموطن السلام والأمان.

تساءَل (القاضي الراجي): حتى مَ تقتطعين من هذه الصخور الأكباد،

وتزعجين هذه البقعة من الأرض وساكنيها؟

فأتجبته بدويِّ صوتكِ الجبار وكأنه مهند بتار:

  • سأستمر بترحيل الكبار والصغار من موطن الإثم والجريمة

حتى تدنو ساعة الاقتصاص من شرذمة اللصوص وقطاع الطرق

الذين أجلستهم الأقدار الرعناء على أرائك الأحكام؛

فراحوا ينكلون بأبناء وطنهم تنكيلاً لم تسمع بمثله القرون السالفة،

فاستباحوا الحرمات، وعبثوا بالأمانات،

وامتهنوا الكرامات، وهشموا الحريات،

وامتصوا دماء الفقير، واستولو على الإيرادات،

وسرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم الأثيمة.

وكان هذا دأبهم منذ الدقيقة الأولى التي استلموا فيها دفة الأحكام...

فكيف لا أقتطع من جسد لبنان أبناءه الأبرار؟

وكيف لا أفتلذُ أكباده الأ؛رار وليس لي من قصد

إلا خلاصهم من هذا النير (الفرعوني الخسيس)؟

أما قولك أيها (الراجي) التائه في بيداء عباراته الخيالية الجوفاء

بأن الثائر الولهان (رجل مخيف فحذار)...

فثق أنه كلامٌ سفسطائي مهذار.

وإلا لو صح الحديث لطغت (الثورة)

في أرجاء البلاد من أقصاهاحتى أدناها،

ولاشتعل أوارُها ولأحرقت الأخضر واليابس،

ولجرفتْ تلك الطغمة (الوصوليَّة)،

ولنكَّلَتْ بها تنكيلاً رهيبًا تتحدث عنه الأجيال بوجلٍ جارف.

ولكنه الخضوعُ المعيب والذل المريب

يقطنان في أعصاب هؤلاء الخانعين لكل فاتح.

ألا تراهم يرتجفون أمام (الكتلة الضخمة المضحكة)

وتصطكُ ركابهم أمام (جثته) القذرة المدنَّسة في أوشابها وأوصابها.

فاصمت أيها الراعي عن حديث (الثورة والرجل المخيف)،

فقد أضحكتني وجعلتني أهزأُ بعباراتك واتخذها أداةً لسمري في سهري...

وهنا أُجبيكَ بلسان (المهاجر) وذلك على تساؤلك:

(غلى متى تهجر الرفيقة القديمة التي احتضنتك وأنتَ في المهد.

أما عصفتْ الذكرى بعد في صدرك الهادئ؟

أما اشتاقت نفسكَ إلى هذه الربوع،

إلى هذه السماء الساحرة والأرض النادرة والمرجة الزاهرة الخ..) فأقول:

  • سأمكث هاجرًا أبي وأمي وأخوتي وأخواتي...
  • نعم، سأبقى متجاهلاً أرض آبائي وأجدادي...

وسأستمر متناسيًا الأرض التي احتضنتني رضيعًا،

والسماء التي ظللتني طفلاً،

والغياض التي تجوَّلتُ فيها شابًا،

لأن أنباء ما جرى ويجري وسيجري في ربوع (وطني السابق)

تقضُّ مضجعي،

وتشعرني بعارٍ سحيقٍ أمام البلاد الراقية المتمتعة بحرياتها الواسعة.

وثق أيها (القاضي الراجي الراضي)

أنني لن أشتاق إلى وطن تنحر فيه الحرية، وتُذبح فيه الحقيقة،

وتُداس بين ربوعه العدالة، وتُهشم بين سمعه وبصره الكرامة،

وتكُبَّل بين جدران سجونه القاتمة الحرية الفكرية

بزج أُدبائه وشعرائه وأبريائه مع محترفي الإجرام

لأنهم جاهروا بحرية أفكارهم

التي تشجب جرائم المالكين سعداء لزمن محدود.

أما (الينابيع) التي تذكرني بها كي تستثير عاطفتي،

فقد استعصتُ عنها بينابيع حقيقية لا ينصُب معينها

ألا وهي ينابيع الحرية التي هي أثمن من الحياة...

فما معنى الحياة إذا فقدت الحرية، وكُبِّلتْ بكبول الظلم والعبودية؟

وهنا أسألك أنا:

- كيف رضيتَ أنت أن تكون ثابتًا كينابيع لبنانكَ بقبولك البقاء في بلاد

أصبحت فيها الحرية سلعةً تباع وتُشرى وكأنها سائمةٌ تافهة؟

إنّ أي فرد يشاهد الظلم الرهيب يظلل سماء بلاده،

والحرية تُسحقُ تحت مواطئ المجرم...

ولا يحركُ ساكنًا لرفع هذا الحيف، ويقنع بالبقاء حيث هو،

راضخًا لأوامر (الوصولي) دون أن يحاول تحطيم كرسيه

لهو عندي مجرمٌ خسيس ونذلٌ وضيع

 يستحق مثل ذلك الحاكم الجائر عدلاً وحقًا.

وإذا أكد أنه لا يستطيع المقاومة لأ، روح الشعب في استخذاء وتراجع،

فلا أقل من معادرته لمدينة (الهلاك)

ورفع صوته في بلاد الحريكة ضد ما يرتكب في وطنه المنكوب.

فيا راجي الراعي!

أيها (القاضي الراضي) الذي لا أدري كيف لم تبكَ (العدالة)

الموؤدة بإرادة (الغاضب) بعدما شاهدته من الأحكام الجائرة

والأمور القضائيَّة (اللاعادلة) وأنت ربها وربيبها،

وأنت الناظر من وراء (روبكَ)... ثوبنَ القضائيّ الأسود...

تلك المهازل التي تمثل كل يوم بل كل ساعة بل كل دقيقة؛

والعدالة التي تُنحر ليل نهار على وضح النهار لأجل تنفيذ رغبة المسيطر،

وأنت الذي عرف وتأكد مقدار الأحكام الجائرة

التي لفظها زملاؤكَ القضاة تحت سمعك وبصرك؛

كيف يا (راجي) لا تريدني أن أثمل من العظمة الأميركية،

هذه البلاد التي وُلدت فيها أنت، والتي هي مهدٌ للحرية الفكرية؟!

نعم أيها (القاضي العليم) لقد سقتني أميركا خمرتها بكؤوسها العسجدية

فسجدتُ أمام عدالتها الحقيقي،

وبتُّ أندّد بظلم الباغية وارتكاباته الجنكيزخانية.

وكذلك أصبتَ بقولك (إن الجمهورية الفضية أعطتني فضتها)

بينما بلادي اللبنانية فضت خزائني وسرقتها بعد أن فككتها وهشمتها.

و(البرازيل) فتحت لي صدرها كما ذكرت...

بينما وطني لبنان أشاح عني وجهه ورفضني،

قبتُّ أشعر لدى ذكر اسمه بعارٍ لا يعلو عليه عار.

وكيف تريدني أن أعود إلى لبنان المكبَّل بقيود الذلّ

ما دمتَ أنت بنفسكَ تعترف اعترافًا سطَّرته بيمينك إذْ قلتَ:

(لقد دعيتَ يا أخي المهاجر إلى الولائم، ومجدَّتَ التماثيل،

ولمستَ بيدك قلبَ الحرية النابض، ورأيتهم يحطمون أمامك هياك العبيد،

وتنشَّفتَ أنفسَ العبير في أنفس الحدائق،

ووقفتَ أمام (نياغرا) وشلاَّلاتها مسحورًا،

وغصَّت خزائنك بالذهب، فخلعتَ عنك ثوبك القديم،

ووضعتَ رسوم نفسكَ في نطاقٍ جديد...).
       فيا راجي الحكيم، ويا أيها القاضي الفهيم، بل أيها (الراعي) العليم!

إذن كيف تدعوني، يا رعاك الله للعودة إلى لبنان

ما دمت تتأكد أنني قد لمستُ قلب الحرية النابض بيدي المرتعشة،

وبعدما شاهدتهم يحطمون أمام هياكل العبيد؟

أتريدني بعد هذا أن أعود إلى لبنان وأُسلم لهم حريتي

كي يتصرفوا بها تصرف المالك،

وأُقدَّم لهم نفسي كي يسوموني الخسف والذل والهوان كالعبيد،

كما فعلوا ويفعلون مع كل لبناني

نيستطيع الهجرة والخلاص من سيطرتهم الرهيبة المعيبة.

أما (لبنان) الذي تسميه (بدر)

فإني أُخالفكَ بهذه التسمية الشعرية، وأضعكَ أمام حقيقته.

فهو قطعةٌ من (جمر) تتأجج وتتوهّج...

قطعةٌ من نار وشرر اقتُطعتْ من صميم سقر، والعياذُ بالله.

كن (واقعيًا) يا راجي، ولا تكن (خياليًا).

دعنا من الشعر! فالشعر لمناسبات وملابسات

غير هذه المناسبة والملابسة التي يجب أ، نكون فيها صريحين.

ولنعترف بأن (لبنان) قادة الطاغية الباغية إلى طريق هلاكه،

وها هو قد لاقى حتفه بظلفه. (واحر قلباه)!

تقول (إن ثروتي قد تراكمتْ وتكدستْ وانتفختْ وتضخمتْ

وارتفعت وعلت حتى حجبت وجهك عني.

فبالله عليك أخرج من وراء أكداسك وابسم لي

ولا تدعني أجني منك كفرانك بي وفي العالم غير الذهب

وأنا ما أزال أذكر أنك كنتَ فقيرًا مثلي) الخ...

لا بد لي من الاعتراف بأن ثروتي قد تراكمت وتكدست

بعدما تبخرت في لبنان وتقلصت.

وما ذلك إلا بسبب الجالس سعيدًا في أحضان أورشليم.

وأعترف بأنها انتفختْ وتضخمَّتْ مثلما تضخم كرشُ حاكمكم المجرم،

وانتفخت أوداجه البشعة صلفًا وخبلاً، فإذا هو كضفدعة (لافونتين).

فيا له من فقير العقل، مسكين التربية، يغتذي عقله على حساب كرشه.

أما كفراني بك وبلبنان فهو لأنك سبق لكم وكفرتم بي،

فعدت الآن وقابلتكم بالمثل،

فبالكيل الذي تكيلون بُكال لكم ويزاد...

ثم إنكَ تعترف بأنني كنت فقيرًا.

نعم إنَّ لبنان لا يمكنه أن يغني أي رجلٍ حر الفكر،

نزيه الكفّ، نقيّ الوجدان،

بسبب (الوصوليّ) الملوَّث في شرفه وضميره.

لهذا فإني أحمد الله على إنقاذه إياي من بلاد

أصبحت عالةً على كل مجاهد لا يصبر على الضيم...

ولا يقبل أن يمكث فيها إلا كل ذليل خاضع ووضيع خائع،

وأنا لستُ من هذه الطبقة يا راجي والمد الله...\

أما (السفينة) التي قلتَ بأنها لم تحملني

من قلب غابة مهجورة أو بلد مجهول،

ولكنها حملتني من أرضٍ تكشف عنها فجرث الإنسانية

واتصل رأسها بسفر التكوين،

فأجيب عليه قائلاً:

  • لقد أصبحت رأس هذه البلاد في مؤخرتها،

فقبلت البلاد هذا الذلّ وقنعت بهذه الوضاعة ولم تجنح للاحتجاج.

وهكذا تكون قد عادت بسيرتها فغاصت إلى الوراء

عائدةً إلى عهود ما قبل التاريخ عندما ظهر سفر التكوين...

وأخيرًا ثق بأنني لا ولن أعود لأنَّ (أميركا) قد فتحتْ صدرها

واستقبلَتْني ضامَّة إيَّاي بين ذراعيها وكأنني فردٌ من أبنائها الاعزّاء.

وهذا ما أفتخر وأعتزُّ به

مثلما أشعر بعار يسري في عروقي ويختلط بدمائي،

عندما أذكر أن لبنان قد رفضني فأنكرني. فلماذا لا أُنكره وأتجاهل وجوده؟!

أما (مهزلة المهازل) أيها القاضي العزيز فهو قولك في آخر قطعتك النفيسة

(عُد إلى أرضك وكوِّن عظمتها بيدكَ واستمتع بلذَّة الحرية والاستقلال).

حقًّا إنها (مهزلة) هذا الجيل دوَّنها قاض جليل.

ولكن هل يتأكّد هذا (القاضي الراضخ الراضي)

أنَّ الحرية موجودةٌ حقًا في وطنه لبنان؟

وهل يجرأ (بوجدانه) فيؤكّد أنها تحيا في ربوع وطنه الغريق؟...

ألا يُقرُّ ويعترف أنَّ هذه الحرية المسكينة قد نُحرتْ وكُفِّنَتْ

ثم ألحدث في رمسها حتى يوم يبعثون،

وذلك على يد (أبي خليل) في هذا العهد الثقيل؟

فيا أخي راجي!.. الراجي رضى مولاه...

ثق بأنني أنكرتُ قومي مثلما هم أنكروني،

وثق بأنني لا ولن أعود في أول سفينة أراها،

لا بل سأوصيها أن تشحن وتجلب من تستطيع إنقاذه

من أبناء الوطن البؤساء التعساء كي يتنسموا عبير الحرية والاستقلال

بعدما سامهم (الظالم) أنواع العسف والجور

والارهاق والعبودية والاستغلال.

ولي أملٌ أودّث تحقيقه قبل أن تغرب شمس حياتي،

ألا وهو مُشاهدتي إيَّاك قد غادرتَ (لبنان) الشقيّ الغائص في مسوحة،

والنائح على ما أصابه من بلايا ورزايا، والمثخن بجروحه.

***

فعدْ، عُدْ سريعًا يا أخي،

فإنني أنتظرك على المرفأ الحر الأمين

بين دمعة حارة وقلب حزين.

وسأفرحُ بلقائك وخيرة الأصدقاء والأخوان،

لأنكَ تكون قد أنقذتَ نفسك من وهدة الذل والهوان.

                                                                                                                                                       بيروت                                                                                        عام 1948